Ads 468x60px

الاثنين، 30 يونيو 2014

الحلقة الثانية: قصص الاحرار : علي بدوي وعلي سليمان

السيد عباس الموسوي

(لله علي لئن رزقني الله ولداً لأهبنّ هاتين الإسورتين من الذهب لأبي الفضل العباس! دخيلك يا أبو الفضل!)

قالتها وقد علقت في فمها غصة من عنده سبب كبير للبكاء ولكنه يكابر .. فكثير منا يضع سدوداً أمام دموعه فتتراكم ثم تصبح سيلاً فتدمر السدود، فقد انقضى أحد عشر عاماً قبل أن تشرق على روح أم علي بسمته، فنذرت، وتصدقت، وكتبت ما كتبت وذرفت دمعة في صلاتها فقد خلقت المرأة لتكون أماً..

ورزقها الله تعالى بعد انتظار طويل بعلي، فعاشت معه مع أول إشعاع منه أشرق على حياتها لحظة بلحظة وخفقة بخفقة، كاد يكون كل شيء عندها، فكبر في حضنها وفي فيء حبها وعطفها ..

ولم يخبئ لها القدر خلاف ما يخبئ لنا، فكلنا نعرفه ولكننا نقع في ما نعرفه ونتعمد الوقوع وكأننا متفقون مع القدر على أنفسنا، فقد كبر علي وكبرت معه إلى جانب صورة أمه في قلبه صور أخرى علقها على جدار قلبه، ففي المسجد عرف الله وعرف رسول الله وأهل بيته باكراً ليس مختلفاً كثيراً عن أقرانه وأترابه .. بل كما يعرفه أطفال جبل عامل وفتيته في مساجده وحسينياته.. وفي حضن أمه وأنفاس أبيه، كما في درس الشيخ في المسجد وخطبته في الحسينية.. وعرف كيف يفعل الظلم بالناس، فرأى وسمع غارات اليهود على جبل عامل، وأنصت إلى أحاديث جرائمهم، فاختلطت في عقله وقلبه صورة الإمام الحسين مع صورة التصدي والمقاومة، واندمجت صورة الشر مع صورة إسرائيل، وهكذا، كلما كبر علي كلما ازدادت الصور على جدار قلبه إلى جانب صورة أمه، بينما كانت صورته هو تكاد تكون الوحيدة على جدار قلبها، فيتزلزل إذا تأوه علي، وينعصر إذا ابتعد علي، ويرقص إذا اقترب.

أما هو، فقد أخذ يخرج ويخرج ليبحث عن ذاته، وأصبح لحقول البلدة طعم في عينيه وإحساساته، ولأزقتها لون مألوف يقارب ألوان بيته بل ثياب أمه وسجادتها المنمقة المزخرفة بقطع ملونة من القماش جعلت جزءاً منها جيباً للسبحة والسجدة.

وأصبح لأقرانه مكان في قلبه، وشاء القدر أن يختار له رفيق العمر في الطفولة والصبا والشباب، إنه عبق التراب إذا ما هطلت أول زخة للمطر على باتوليه ففاح عطر من بين تلاّعةٍ وصخرة، وإنه خضرة البساتين تزينت بقطرات من اللؤلؤ عند الصباح.. إنه علي سليمان، نصفه الآخر، الذي لم تكن أمه قد قلقت وانتظرته كثيراً قبل أن يأتي إلى دنياها كما انتظرت أم علي بدوي، فقد سبقه إلى حياتها إخوة وأخوات، ثم إنضم هو إلى عائلة تقاسم معها كل شيء، الحب والعمل والحظ ..

انضم إلى أبيه يعمل في البساتين باكراً قبل شروق الشمس، ثم يغادران عند الضحى إلى المنزل القريب فقد تداخلت بيوت باتوليه مع شجيرات البساتين المحيطة بها فاكتسب أهلها نكهة تفوح من أزهار الليمون..

وفي بيته كان يرى أمه وإخوته الصغار في أعمال أخرى فكبر في ورشة لا تهدأ من الكد والكدح.. كما كبر أيضاً، وكان المسجد قريباً من بيته، وقد نسجت بين قلبه وبين ذلك الأذان وتلك الصلوات خيوط شكلت مع الزمن شبكة أسرت قلبه واصطادته فوقع ضحية الهوى والحب، وإذا به يحرص على ارتياد المسجد وهو بعد لم يميز، طفلاً، فيتوضأ، كما الكبار، ثم يتناول السجدة الحسينية ومعها رفيقتها، السبحة، وإن لم يسبح، كالكبار، تسبيحة الزهراء..

كان المسجد بالنسبة إليه كحضن أمه، لا يتكلف تأويل حبه له فقد أصبح من مخزونات الوجدان والقلب التي نرتبط بها ويخفق قلبنا لها بدون أن نعلم لذلك تفسيراً، فمن الصعب أن نطلب من قلوبنا تفسيراً لخفقانها..

ثم شاء له القدر أن يتعرف على تربه وصنوه على مقاعد الدراسة وفي المسجد، علي بدوي، ومنذ تلك الأيام وقدمُه إثر قدمِه، فلم يتفرقا إلا قليلاً، وحتى حين يمم علي بدوي شطر إفريقيا يطلب الرزق فإن شيئاً من الحب بينهما لم تغيره تلك الأمزجة.. فنشئا معاً ونبيا حباً كبيراً اختلط بأنفاسهما لبنة لبنة .. وكبرا على هذا الحب حتى شاء الله أن يكون اسم علي بدوي لازماً لاسم علي سليمان في المدرسة الشارع والبيت .. ثم في المعسكر ثم في المقاومة ثم في الحصول على وسام الشهادة..

مسحت أم علي بدوي له يوماً على رغيف طازج لحمة مدقوقة على البلاطة كما هي عادة أهل جبل عامل، وكانت كريمة جداً، فهذا الرغيف لعلي ابنها، ثم رشت عليها الكمونة العطرية، ثم مسحت على رغيف آخر مقداراً آخر من اللحم ورشت مقداراً آخر من الكمونة .. وخرجت من المطبخ.

- يا أمي.

التفت علي

- انتبه! هذه لك، وأشارت إلى الرغيف الذي بيدها اليمنى.. وهذه لعلي سليمان، وأشارت إلى الرغيف الذي بيدها اليسرى!

كانت تعلم أنه لا يأكل إلا إذا كان علي سليمان يأكل معه.. وكان ينتظره خارج البيت

فضحك وقال:

- يا أمي! يا حبيبة قلبي، لا فائدة في كل ذلك، أريحي نفسك، فلا يوجد فرق بيني وبين علي سليمان.

فعادت تؤكد عليه، وكأنها لم تسمعه ولم تبالي بما قاله:

- لا تنس! هذه لك وهذه لعلي سليمان..

- طيب! حاضر!

أجاب راضخاً، وتناول الرغيفين وخرج مسرعاً إلى حيث ينتظره علي سليمان الذي نظر إلى الوجبة الشهية في يده، فبادره علي بدوي:

- هذه لك، وأعطاه الرغيف الخاص به، وهذه لي، وشرع في قضم رغيف علي سليمان الذي كان يأكل بشهية وعلي ينظر إليه مبتسماً إلى أن فرغ من رغيفه التفت إلى علي بدوي قائلاً:

ما هذه السندويشة الطيبة! إنها مليئة باللحم والكمونة! إن أمك (شاطرة) في دق اللحمة وصناعة الكمونة، فضحك علي بدوي ضحكة ذكرت علي سليمان بطفولتهما وصباهما وأيام بعيدة مشمسة دافئة وبمقاعد المدرسة ونوافذها وبأوراق أشجار البرتقال الخضراء المرصعة بندى الصباح وتفوح منها رائحة عطرية مغروزة في حنايا القلب.

ومع إشراقة الطلعة البهية للإمام الخميني على جبل عام عرف علي بدوي وعلي سليمان طعم الانتماء إلى كلمات وشعارات ومبادئ الإمام.. وكانا وما زالا في طور الصبا فانعكس الأمر قلقاً على أم علي التي أخذت تبذل جهداً مضاعفاً لإبعاده عن تيارات البحر مع أنها ساكنة على شاطئه تضرب بيتها أمواجه كل لحظة .. وقد نحب شيئاً ونعشقه فتصيبنا بذلك أوهام وأحلام، وقد نكره شيئاً وننفر منه فتصيبنا منه هواجس ومخاوف، ونجحت، وسافر علي بدوي إلى إفريقيا حيث ابتدأ معالم شخصيته تتبلور هناك وتتجوهر.

إنه شاب في السابعة عشر من عمره، طويل القامة، حاد النظرات من خلف نظارات توحي بالمكر والدهاء، ولكنها كانت تخبئ حباً وعطفاً وحناناً في قلبه لا يكاد يتعرف عليه إلا من يعايشه ويخالطه.

كان وسيماً مرتباً يعتني بهندامه وثيابه وتناسق ألوانها، متأنقاً في مشيته، لا تكاد البسمة تفارق ثغره، فيعتقد كل من يراه يمشي ويتكلم بالفرنسية أنه من أولئك الشباب الجدد غير المبالين بالدين أو بالتقاليد من الذين تربوا في إفريقيا، كان يتعمد أن يبقى صامتاً حتى ولو فسر صمته بأنه نفور من مخالطة الآخرين أو عدم مبالاة بهم، أو بأنه اعتداد بنفسه.

فأتقن فن التلاعب بالكلام والألفاظ وفن ارتداء الثياب، وطريقة قيادة السيارة، بل ورفع صوت المذياع في سيارته على الموسيقى الأجنبية.. مما كوّن لدى كثير من الآخرين انطباعاً لا يوحي بالجدية ناهيك بحمل السلاح والقتال وكأن معالم شخصيته الخارجية قد أخذت تتعنون بينما إدراك المعنون يحتاج إلى قلب قريب جداً إلى حد الملاصقة والاحتضان والغوص في أعماق مكنوناته..

فلم يكن مظهره ينم على أنه من أهل الفكر والعمل، أو من أهل التدين العميق والطهر الذي عرفه به رفاقه ومن سار معه مسيرة المقاومة حتى استشهاده، والذين كانوا يرون فيه أيضاً إلى جانب ذلك قوة في الإرادة وحزماً في القيادة خلال توزيع المهام والتكاليف على الشباب، كذلك كانوا يعرفون فيه رجلاً صامتاً متفكراً، وفي العمل لا يكل ولا يتعب، فكان يجمع بين القوام العسكري الفارع وعدم التسامح والتساهل مع نفسه ومع من يعمل معه في المقاومة، وبين دماثة الخلق والروحية والطيبة..

وكان علي سليمان، ابن السابعة عشر ربيعاً أيضاً، صورته في المرآة باسماً أبدا، طاهراً، صامتاً، جدياً وهادئاً.. وكان ما يزال هزيلاً قصير القامة يثير شفقة أمه، إلى أن غاب عنها ثمانية أشهر كاملة، وعندما عاد نظرت إليه النظرة الأولى باستغراب شديد.. وأخذت عيونها تحوطه بسرعة ترافقها الصلوات على محمد وآل محمد، بينما كان هو يكتفي بضحكة عريضة وقد استسلم لنظراتها. لقد تغيرت صحته، فامتلأ جسمه واشتدت عضلاته وغدا طويلاً ممشوق القامة متناسق القسمات..

لم تكن أمه تعلم أن تغييراً كبيراً قد طرأ على حياة ابنها، وأن نظرة جديدة إلى الحياة قد رسخت في قلبه، فاستقر على إيمان عميق ثابت بعث في حناياه اطمئناناً وهدوءاً ولذة وروحانية عالية، وسروراً بقتل اليهود وقتالهم مما جعل صحته تتحسن باطراد .. إنه حب الله وعشق الشهادة، والأنس بالجهاد والمقاومة.

وامتزجت مشاعر العليين وعواطفهما عبر سنين طويلة من الصبا إلى الشباب في أزقة البلدة وروابيها وحقولها ومدرستها.. وأخذا يستمعان بشغف إلى الشيخ حسن، الأخ الأكبر لعلي سليمان وطالب العلوم الدينية في مدرسة الإمام المهدي المنتظر في بعلبك، الذي كان يحدثهما في إيران وعن الإسلام والإمام الخميني وولاية الفقيه.. ثم أخذا يشتركان في إعادة صياغة الأفكار ونقلها إلى آلة التعبير فاختلطت كلماتها وتعابيرهما وكأنها كلمات متقاطعة، تجد كل كلمة منها حرفاً عند علي بدوي وآخر عند علي سليمان، فتتم الكلمة بعد أن تم المعنى..

كانا يفكران معاً وبصوت عال، فقد ابتدأت منذ أيام تراودهما خيالات وأماني وأحلام، وأخذا يعبران عن حقد دفين في صدريهما على المحتل الصهيوني، فيتصوران عملاً عسكرياً يقومان به، إلا أن إحباطاً واقعياً وشللاً حقيقاً كان هو سيد الموقف، وكانا عاجزين معه عن القيام بأي عمل ذي قيمة، فقد كانا على جهل تام بالسلاح وكيفية استخدامه ناهيك عن الحصول على نفس السلاح الذي لم يكونا يملكان منه شيء.

- ولكن ما هي الخطوة الأولى؟ ما الذي ينبغي فعله؟ نريد سلاحاً وذخائر.. ثم إننا لا نتقن استعمال السلاح وصناعة المتفجرات وزراعة العبوات الناسفة وتفخيخها!

قالها علي سليمان وهو يحدّق في عيني رفيق صباه.

- عندي فكرة بالنسبة لذلك الأمر!

- ما هي؟

- لماذا لا نذهب إلى أحد مسؤولي هذه التنظيمات الموجودة في المنطقة؟ ما رأيك بالتوجه إلى (فاروق) الذي هو مسؤول ذلك التنظيم، نطرح عليه الموضوع، فقد كنت أستمع إلى خطبه وكلماته على المنبر ولعله يساعدنا.. أو ننضم إليه وإلى تنظيمه إذا كان يعمل شيئاً!

- لنتوكل على الله!

وكان الأمر سهلاً، فالطرقات لم تكن بعد أقفلت بالحواجز، ولم تكن إسرائيل قد استنفرت قواتها في منقطة صور لتطارد علي بدوي وعلي سليمان، وتهادت السيارة بهما إلى صور فإلى القرية التي يعيش فيها ذلك المسؤول، بينما كان الجنود الصهاينة في الشوارع زرافات ووحدانا، يمشون مطمئنين، تختلط ضحكاتهم، يخرجون من دكان ليدخلوا آخر حتى أن بعضهم كان لا يحمل سلاحه الفردي، وعينا العليين تلاحقانهم بوجوم، وقد طغت على وجهيهما صفرة تشبه صفرة الموت، وجف اللعاب في حنجرتيهما اللتين امتلأتا غصة، فكانا بين الفينة والأخرى يتبادلان نظرة صامتة فيها الكثير الكثير من معاني الغضب والتصميم!

سلما عليه، ورحّب بهما واستقبلهما بتودد، على عادته في استقبال الناس الذين يدخلون بيته يومياً، وبعد أن تعرف عليهما جيداً وسألهما عن أحوال القرية وأحوال أتباعه فيها وانتظرا حتى بقيا لوحدهما عنده عرضا عليه مشروعهما همساً.

- نحن مستعدون للقتال والمقاومة ولكننا نريد منك أن تمدنا بالسلاح ونحن نتكفّل بالباقي!

وهنا وقع جوابه كالصاعقة على رأسيهما!

- نحن لا نريد مقاتلة إسرائيل!! فإن إسرائيل سوف تنسحب من بلادنا، ثم لا يوجد عندنا سلاح، وأنتما ما زلتما شابين في زهرة عمركما، ارجعا إلى أهلكما ولا ترموا بأيديكم إلى التهلكة، ووقف واتجه نحو الباب قائلاً:

- أهلاً وسهلاً بكما .. شرفتما!

وانتهت المقابلة، وخطوا خلفه نحو الباب واجمين، وغادرا كالمطرودين منزله، عائدين إلى القرية، صامتين يتبادلان نظرات الاستغراب، وقد وصل الإحباط عندهما إلى أعلى مستوياته، فكادا لا يحسان بما يجري حولهما من أصوات.

- لقد سقط هذا الرجل من عيني بسرعة، كيف يقول لا نريد مقاتلة إسرائيل؟

- ويقول أيضاً (لأن إسرائيل سوف تنسحب)! عجيب!! .. أي انسحاب بعد أن دخلوا وسيطروا على كل شيء حتى على رئيس الجمهورية؟

- كنت أظنه ممن يفهم في السياسة!!

وانفجرا في ضحكة هي خليط من السخرية والتنفيس عن حنق المكتوب.

- هل تذكر خطبه الرنانة؟

- يا إلهي !! الحمد لله الذي خلصنا من التورط معه، هذه نعمة من الله، فمن كان يدري ما كانت سوف تؤول إليه الحال لو ارتبطنا معه؟

وفي بيت علي سليمان، وتحت شجرة في الحديقة، جلسا ينكتان الأرض ويصبان حنقهما وحيرتهما في تكسير أغصان يابسة بصمت تقطعه أصوات تكسر تلك الأغصان بينما كانت تداعبهما نسيمات عليلة عاملية..

- السلام عليكم.

قطع سلامه صمتهما وشرودهما واجتذب عيونهما اللامعة نحوه..

- وعليكم السلام.

- ماذا تفعلان؟

كان الشيخ حسن، الأخ الأكبر لعلي سليمان، وقد جاء إلى القرية في عطلة، داخلاً إلى البيت فوقع بصره عليهما..

ولم يجيبا، بل نظرا إلى بعضهما وكأن الأمر كان ينبغي أن يبقى سراً، فالقضية التي يفكران فيها كانت من أنواع المستحيل، عقلاً وعرفاً، فهل تقاوم العين المخرز؟ إنها قضية مقاومة إسرائيل! وكانا يخشيان أن يفلت منهما زمام السيطرة على الموضوع، على الأقل أمام الأهل.

إلا أن الشيخ لم يترك الأمر يمر مرور الكرام، وهو مشروع العالم الذي ينبغي أن لا يتحرّج من التدخل في كل صغيرة وكبيرة بهدف الهداية والإصلاح.. وإذا به يدخل الحديقة ولا يتردد في الجلوس بقربهما..

- هيا.. أخبراني! ما بكما؟ أقرأ في عيونكما كلاماً..

وأخبره علي بدوي، فقد خشي علي سليمان أن تتغلب الشفقة على قلب أخيه ويمانع ما ينويانه من العمل، وهنا كانت المفاجأة لهما..

- لقد وصل حرس الثورة الإسلامية إلى بعلبك، وافتتحوا معسكراً للتدريب هناك.

وبعد أن حدق طويلاً في عيونهما أكمل حديثه:

- إن العمل مع الخط المحمدي الأصيل وعبر ولاية الفقيه هو ضمان الدنيا والآخرة! ثم استطرد بهمس:

- وإذا سمعتما من هذا العبد الفقير فتوجها إلى سماحة السيد عباس الموسوي في المدرسة الدينية في بعلبك وعنده سوف تجدان ما تطمحان إليه.

قالها بهمس وكأنه يخشى أن يسمعه أحد ممن في البيت..

ووقعت كلماته كبلسم شاف على قلبيهما، واكتشف علي سليمان مدى ما وصل إليه أخوه من الاعتقاد، وأدرك بسرعة كيف يربط بين النظرية والممارسات فالتفت إلى علي بدوي..

- توكلنا على الله؟

- توكلنا على الله، ولكن يلزمنا أجرة الطريق ومصروف..

- بسيطة، أنا أعمل في معصرة الزيتون، فما رأيك لو عملت معي؟

ومضت عشرة أيام في معصرة الزيتون، استلما خلالها نوبة الليلة الصعبة عادة، إلى أن تمت أجرتهما.. صفيحة زيت كاملة، فالأجرة في معاصر الزيتون في جبل عامل هي نسبة مئوية من الزيت يأخذها العاملون في المعصرة.

وبيعت الصفيحة بسرعة، لأنهما عرضاها بأقل من سعرها المعتاد، إذ لم يكن مرادهما ربح المال، وكان ذلك المقدار الذي جنياه كافٍ للوصول إلى بيروت فالبقاع ثم إلى المدرسة الدينية في بعلبك.

وفعلاً، غاب علي بدوي وعلي سليمان عن باتوليه وعن أم علي وأم عبد الله.. وكان ليل كانون الأول القاتم يخيم على المدينة والسهل، والسماء منظومة بالنجوم المتناثرة، وقد قام السيد عباس يرافقهما إلى باب الغرفة، وعندما أراد الخروج منها إلى الممر المظلم البارد طلبا منه بالتماس وتودد أن يبقى، فقبّل وجنتيهما فأحسا مع برودة الطقس برائحة عطر خاص تنبعث من أعطافه وثناياه، وتوجها نحو السيارة التي كانت تنتظرهما وتلوح داكنة في الطريق المعتم..

ولم يعلم إلا الله مقصدهما، والسيد عباس الموسوي الذي زودهما بورقة صغيرة منه كانت جواز المرور إلى معسكر جنتا حيث انضما إلى دورة عسكرية مميزة، نقلتهما من عالم الأحلام والأماني والخيال في تصوّر كيفيّة العمل العسكري ضد اليهود إلى عالم الحقائق والمعاناة والتجربة والممارسة والتعلّم..

وبينما كان علي بدوي وعلي سليمان ييممان شطر البقاع في رحلتهما الجهادية إلى معسكر جنتا كان محمد حدرج ويوسف أخوه قد قررا طلب العلم الديني والدراسة في حوزة الإمام المهدي المنتظر في بعلبك!