كنت أنا ورئيس الملائكة نتحرّك جنباً إلى جنب على رأس الجيش الكثير الجلبة والضجيج، ولاحظت أنّ حضرة الرئيس مقطّب الجبين عابس ومطأطئ الرأس وغارق في التفكير، ويهمّ أحياناً أن يقول شيئاً، ولكنّه يبتلعه ويلزم السكوت. وعلى الرغم من أنّي كنت أعرف ما يجول بخاطره، فقد سألته:«ماذا بك ؟».
قال: «إنّني خائف من سلوككم الثائر هذا، الذي لم يحدث مثله في هذا العالم الذي يسوده الأمان دائماً، وأخشى أن ينزل غضب الربّ عليكم فتصيبنا النار التي ستصيبكم».
فقلت: « ولماذا تصيبكم نارنا ؟ ».
قال: « لأنّنا لم نَنْهَكم عن أعمالكم القبيحة هذه ».
قلت: « إذا كانت أعمالنا قبيحة فلماذا لم تَنهونا عنها ؟ ».
قال: « لأنّنا أُمرنا أن نوصلكم إلى حدود برهوت ».
قلت: « ونحن أيضاً ذاهبون معكم، فما وجه القبح في أعمالنا ؟ ».
قال: « تجييشكم هذه الجيوش، وإثارتكم الفتنة ».
قلت: « هل أمركم الله أن تأخذونا بصورة أُخرى ؟ ».
قال: « لا، بل قال خذوهم ».
قلت: « الأخذ إذن مطلق، ولا يقتصر على صورة معينة، راجلين أو راكبين، مسلّحين أو غير مسلّحين... فمهما تكن هيئتنا، فعليكم أن تأخذونا بأمر من الله، وما في هذا من قبيح، لأنّ الله لا يأمر بالقبيح. وعليه فلو أنّكم نهيتمونا عن أمر الله لكنتم قد خالفتم ما أنزل الله، ولغضب الله عليكم، ولهذا فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على من يعرف المعروف والمنكر ويميّز بينهما، ولكنّك ما تزال لا تعرف الحسن والسيّئ ولا تميّز بينهما، فكيف كنت تستطيع أن تنهانا عن أمر وتأمرنا بأمر آخر ؟ ».
ورأيت أنّه نزل كثيراً عن عظمته السابقة وصغر، وقال: « الحمد لله على أنّي لم أفتح فمي بنهي ».
قلت: « إنّ غيرتي تحدوني إلى أن أحملك على التصاغر أكثر من هذا. إنّ قولك: بأنّ حادثة كهذه لم تحدث من قبل في هذا العالم، يعني أنّك تقيس المستقبل على الماضي، وأنّه يجب أن لا يحدث أيّ جديد. إنّ أوّل من قاس هو إبليس الذي قال: إنّ ما صُنع من نار يكون منيراً، وإن ما صنع من تراب يكون مظلماً لا نور فيه. وأنت تعلم أنّ قياس إبليس هذا كان باطلاً، ولتعنّته هذا طُرد من حضرة الله. وقياسك هذا باطل أيضاً لأنّ الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأنٍ (1).
إشكال خائف لرئيس الملائكة
فرأيت رئيس الملائكة قد صغر أكثر، وقال: « إنّ خوفي نابع من أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لعليّ صريحاً: إنّ الطيّب لم يزل غير متميّز عن الخبيث، ولا يكون الظهور إلاّ بعد تمايز الطيّب عن الخبيث وانفصالهما عن بعض، كما في قصّة نوح، ولكنّكم تسعون ـ بخلاف التقديرات الإلهية ـ أن تستعجلوا حدثاً يقدّر الله أن يتأخّر وقوعه. وبعبارة أُخرى، إنّ ما قُدّر له أن يحدث غداً أتريد أنت أن تجعله يحدث اليوم ؟! وهذا في الواقع ادّعاء الربوبيّة » (2).
فسالته: « هل يُقدَّر كلّ حدث في هذا العالم ضمن سلسلة أسبابه أم لا ؟ ».
قال: « لا شكّ أنّها تقدّر ضمن سلسلة عِللها، لأنّ الطفرة في هذه الأحوال مستحيلة ».
قلت: « أحسنت، إنّ سلوكنا هذا ودعاءنا وإلحاحنا في الطلب، مهما كان عجيباً في نظرك، قد يكون من جملة الأسباب والمقدّرات الإلهية، لأنّ خطرات النفس وميولها كثيراً ما لا تكون مسيطَراً عليها (3).
وعليه فإنّ الإلحاح في الدعاء والطلب من الله من جملة المقدّمات التي تقرّب ظهور البعيد، وتبعد ظهور القريب، وترفع الموانع، وتوجد شروط الحدوث، وإنّ الإلحاح في الدعاء من المستحبّات، إذ إنّه إذا لم يكن له تأثير فإنّ له في الأقلّ ثوابه ».
فخفّ عبوس رئيس الملائكة، وانتقل من الانغلاق إلى الانفتاح، ولان طبعه، وقال: «لكنّ النبوءات والإلهامات والخطرات الرحمانية لعبيده، تأتي عن طريق الملائكة ، ولا يكون غير ذلك، لأنّ الطفرة مستحيلة (4)، ونحن لا علم لنا بهذه الخطرات والحوادث».
قلت: « لقد نزلت الآيات الأخيرة من سورة البقرة بغير وساطة جبرائيلكم، أليس لكم رؤساء ؟ ».
قال: « بلى كثيرون، ولا نعلم درجاتهم ».
قلت: « فلعلّ هذه الخطرات والحوادث قد وقعت عن طريق رؤسائكم. ثمّ إنّنا من محبّي أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإلاّ لما كنّا في هذا الجاه والمقام. وإنّ من لوازم المحبّة إعانة العاشق معشوقه للوصول بكلّ ما يمكن، ولو بلسان الدعاء، فما وجه اعتراضكم ؟ تقولون: لماذا تحبّونهم، أو لماذا تعملون وفق لوازم المحبّة ؟ وماذا إذا لم يحر جواباً » (5).
قلت: « إنّ ما يوجب تعاليكم هو تجرّدكم. ولو أنّنا ظللنا على تجرّدنا الأوّل أيضاً، ولم نتعلّق بالتراب، لكنّا مثلكم، بل لعلّنا كنّا ندّعي الإلوهية، كما يقول الإمام الصادق عليه السّلام. ولكنّكم تؤيّدون حتماً أن ليس كلّ متجرّد أعلم من المادّي غير المتجرّد وأرفع منه » (6).
الحلقة الثامنة والعشرون - الانتقام في برهوت وحشد القوى لخوض الجولة الحاسمة
_________________1ـ الرحمن / 29. أي إنّ ضجيجنا هذا الذي كان من أجل تسكين رغبة التشفّي في قلوبنا لا يجوز لك أن تقيسه بإثاره الفتنة والشغب، مثل إبليس الذي قاس نفسه بآدم عليه السّلام وأبى أن يسجد له لاعتباره النار خيراً من التراب.
2ـ أي إنّ سبب اعتراضنا نحن الملائكة هو أنّ الانتقام أشبه بقضية صبر الإمام عليّ عليه السّلام على غاصبي خلافته، وصبر الله الذي استغرق بضع مئات من السنين قبل أن يُغرق قوم نوح، والسبب في كلا الحالين هو الانتظار حتّى يخرج من صلب هؤلاء الكفّار ذريّة طيّبة صالحة. الواقع أنّ الله قد قرّر لكلّ حدث موعداً، ولربما لم يحن بعد موعد الانتقام من المخالفين.
3ـ بما أنّ الله حاكم على كلّ ظروف الأحداث وعللها ومقدّماتها، وإنّ إرادته ومشيئته غالبة، فهو قادر على إلغاء علل الأحداث وظروفها، وإحداث تلك الحوادث بدون قيد ولا شرط، وما أدعيتُنا هذه أو الصدقات التي نتصدّق بها بأمر الله إلاّ دليل على أن الله قادر، بأدعيتنا وصدقاتنا، على الحيلولة دون وقوع ما كان مقدّراً، أو أن يستعجل حدوث ما لم يحن وقته بعد، أن يزيد أو ينقص في الأعمار، وفي مثل هذه الأُمور يساعد الله على تحقيقها، كأن يُوقع في قلب الإنسان أن يدعوه ليستجيب له.
4ـ أي إنّ تحقيق الاُمور مستحيل بغير سبب أو علّة.
5ـ القصد هو أنّه لا ضرورة لوجود وساطة دائماً بين الله والأنبياء وعبيده المقرّبين، بل قد يلقي الله ما يريد في القلوب. ثمّ إنّ الحبّ لا يعرف الظروف والعلل والمقامات.
6ـ مفاد حديث الإمام الصادق عليه السّلام في جواب الذي سأل: لماذا سجن الله تعالى الأرواح الحرّة اللطيفة المجرّدة من عالم الملكوت الأعلى في الأجساد القذرة في الدنيا، أنّه قال: « إنّ ذلك التجرّد وتلك الحرية هما اللذان أدّيا إلى غرورها إلى الحدّ الذي كادت فيه أن تدّعي الاُلوهية. فلكي يثبت الله سبحانه وتعالى ذلّتها وفقرها ومخلوقيتها وجهلها، هبط بها وأذلّها وجعلها أسيرة هذه الأبدان الترابية. ثمّ أمرها بعد إحساسها بالفقر والذلّة أن تستغيث به وتطلب منه أن يجعلها غنية وكاملة وعالمة، وأن تقوم بالتسبيح لله وهي فقيرة وجاهلة.