دخلنا الحجرة.. فإذا بحوريّة جالسة على السرير، وقد أضاءت الحجرة بنور وجهها، فأعشّتْ عيني. قال الهادي: « هذه زوجتك، جاءتك الليلة من وادي السلام »، ثمّ خرج من الحجرة.
فاتّجهتُ نحوها، فقامت واقفة احتراماً، وقبّلتْ يدي، وجلسنا جنباً لجنب.
قلت لها: « أخبريني عن حسبك ونسبك، وكيف أصبحت لي ؟ ».
قالت: « أتذكر المدرسة الفلانية التي كنت تَدرس فيها وأنت في عزّ شبابك، حيث أحييتَ سُنّةً في إحدى ليالي الجمعة هناك ؟ ».
قلت: « نعم ».
قالت: « لقد خلقني الله من ذلك العمل الصالح ».
فقلت: « زيديني من كلامك العذب، لأنّي أتلذّذ بكلامك الحلو إذ أسمعك تتحدّثين ».
فأرخَتْ أجفانها حياءً وخَفَراً، وابتسمت ابتسامةً أضاءت بالتماعها جنبات القصر، وقالت: « أنا لست وحدي مخلوقة من ثواب ذلك العمل الصالح، ففي جنّة الخُلد عدد كثير من الحور خُلِقن من أثره، وهنّ على قدر من الجمال الباهر بحيث إنّك في الوقت الحاضر غير قادر على تحمّل النظر إليهنّ إلاّ بعد وصولك إلى هناك، إلاّ أنّ أشعتهنّ تنعكس في وادي السلام، وهو فيض من أنوار جنّة الخلد. فتلك الحوريّات لا تستطيع تحمّل رؤيتهن الآن، أمّا أنا التي جئت لخدمتك فلست أكثر من انعكاس باهت لجمالهنّ وفي مرتبة دانية ».
فسألتها: « أتعلمين لماذا كان للمتعة كلّ هذه الخصائص وكانت محبوبة عند الله ؟».
قالت: « بالإضافة إلى ما فيها من المتعة الذاتية، فإنّها لولا تشريعها لارتكب الكثير من الناس جريمة الزنا، لعدم استطاعتهم الارتباط بالزواج الدائم، وكان لإلغائها مفاسد كثيرة، كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:
« لولا منعها عمر لما زنى إلا شقي » (1). ومع ذلك فإنّ في هذا العمل يندرج ركنان من أركان الإيمان: الأوّل هو التولّي، والآخر هو التبرّي. فبغير ولاية عليّ بن أبي طالب وأولاده عليهم السّلام، والتبري من أعدائهم، لا يمكن أن يرى أحد وجه النجاة حتّى لو عبد عبادة الثقلين، وظلّ طول عمره قائم الليل صائم النهار، وقد وردت في هذا المضمون أحاديث قدسيّة كثيرة، كما تعلم أنت خيراً منّي ».
قلت: « تُرى في أيّة مدرسة تعلّمتِ كلّ هذا الكلام الذي يقطر حلاوة ؟ ».
قالت: « إنّ مصطلحاتكم التي تتعاطونها في الدنيا وتمسّككم بالألفاظ والأسماء لا وجود له هنا، فنحن جميعاً مواليد عوالم أُخرى لا مدرسة فيها ولا تعليم، لكنّنا بالولادة عارفون عالمون ».
عبور أرض الشهوات
عاد الهادي وأشار بضرورة الحركة، فنهضتُ وركبت الفرس وأمسكت العصا بيدي، وعلّقت الترس على ظهري، وناولني الهادي البطاقة وجواز المرور، وتحرّكنا حتّى خرجنا من المدينة، ودخلنا أرضاً كلّها أوحال ومستنقعات. وعلى امتداد الطريق من الجانبين كانت تطالعنا حيوانات أشبه بالقرود، ولكن كانت تبدو كالبشر، فأجسامها لم تكن مغطّاة بالشعر، ولم يكن لها أذناب، وهي تسير بقامات مستقيمة، إنّما كانت تشبه القرود، وكان يخرج من فروجها القيح والدم والفائر.
سألت الهادي عمّا تكون هذه الأرض، وعمّن تكون هذه الحيوانات التي تثير روائحها وعفونتها التقزّز والاشمئزاز في النفس.
فقال: « هذه الأرض أرض الشهوات، وهؤلاء هم الزُّناة، واحذر أن تخرج عن الطريق، وإلاّ أصابك بعض ما بهم ».
فاستولى عليّ الرعب، وأمسكت بزمام الفرس لئلاّ يخرج عن الطريق الذي كان مليئاً بالطين والوحل، بحيث كان الفرس يغوص فيه حتّى بطنه.
كنت أقول في نفسي: ما أحسن وصول هذا الفرس لي لأسير عليه في مثل هذا الطريق! رحم الله زوجتي التي أرسلَتْه إليّ. وما أصدق الحديث: « مَن تزوّج فقد أحرز نصف دينه » (2)، وقد قال الله تعالى:«هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وَأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» (3).
كنت أرى بعض أولئك معلّقين بالمشانق، وقد ثبتت مذاكيرهم بمسامير الحديد على المشانق، ومنهم من كانوا يُجلدون بالسياط المصنوعة من الأسلاك، فينبحون كالكلاب، فيقال لهم: اخْسَأوا فيها ولا تُكلّمون .
وَلَوْ تَرى إذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُو رُؤوسِهِم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أبْصَرْنَا وسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صَالِحاً إنَّا مُوقِنُون
(4).
ورأيت غبُر الوجوه قد وصلوا، وبعضهم هجم محاولاً الخروج عن الطريق، وبعضهم حاول إثارة الخيل، وبعضهم كان يشير إلى جفاف جانب الطريق. وكنت أرى أنّ الراكبين من غبُر الوجوه الذين كانوا يسيرون على الأرض الجافّة لم تكن تظهر آثار حوافر خيلهم على الأرض، حتّى أنّ المرء كان يحلو له أن يترك الطريق الموحل ليسير على حافّته الجافّة، ولكنّي مع ذلك التزمت كلام الهادي، فأمسكت بلجام الفرس بشدّة لئلاّ ينحرف عن الطريق.
كنت أرى المسافرين الذين أقنعهم سُودُهم بالخروج عن الطريق وقد غاصوا في الأوحال والمستنقعات حتّى أذقانهم، بحيث كان من الصعب إخراجهم، والذين تمكّنوا بكلّ مشقّة من الخروج خرجوا وأجسامهم ملوّثة بالقذر الأغبر، وبعد فترة كان ذلك القذر يذيب لحم أجسامهم، فتتساقط على الأرض من شدّة الحرارة.
والظاهر أنّها لم تكن من الأوحال، بل كانت من موادّ قُلَوية أو من القَطِران. وكنت من شدّة خوفي أشُدّ على زمام الفرس وأقول: الحمد لله الذي لم يجعلني من السَّواد المُخترَم. وكنت أسمع المسافرين يشكرون الله بصوت مرتفع. فقلت للهادي: « إنّ من أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله أنّك إذا رأيت مبتلىً، فاشكر الله على سلامتك بصوت منخفض، لئلاّ يسمع فيحترق قلبه ».
فقال الهادي: « ذلك حكم الدنيا، حيث أهل لا إله إلاّ الله محترمون. ولكن هنا وفي يوم الجزاء، يجب الشكر بصوت مرتفع، لكي يزداد ندم المبتلى وأسفه، وليتّضح كلّ ما كان مستوراً مختفياً، لأنّنا نتّجه من الظلام إلى النور، ومن العمى إلى الإبصار، ومن النوم إلى اليقظة، فالدنيا دار الظلام والحزن والأسى: وإنّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الَحَيوَانُ (5)، وإنّ الله جاعل الظلمات والنور ».
الحلقة الرابعة عشر - مع الأغبر من جديد وعودة الهادي
_______________________1 ـ لمعرفة المزيد حول هذا الموضوع ارجع إلى كتاب (الغدير) للباحث الشيخ عبدالحسين الأمينيّ رضي الله عنه وغيره.
2ـ هذا الحديث مرويّ في (الكافي) و (من لا يحضره الفقيه) عن كليب الأسدي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام.
3ـ البقرة / 187. المقصود هو أنّه مثلما أنّ الملابس تقي الإنسان من الأوضار والحرّ والبرد وغير ذلك، فإنّ المرأة والرجل يحفظ كلّ منهما الآخر ويقيه.
4ـ السجدة / 12.
5- العنكبوت / 64.