يُحكى أن امرأةً كان لها ابن مغفّل وضعيف الشخصية ، وبحثت له عن زوجة ترضى بالزواج منه حتى وجدت أخيراً فتاة تكبره بعدة سنوات وافقت على الزواج منه ، وفرحت الأم بزواج ابنها ، ولكن الابن بعد الزواج بدأ يهزل ويضعف ويصفرّ وجهه ، وأصبح مُخَاطه سائلاً ، وحالته يرثى لها ولا يكاد يقوى على المسير ، ورأته أمه وهو على هذه الحالة وهي المجربة الخبيرة ، وعرفت أن ما حلّ بابنها هو من فعل زوجته الشابة . فأرادت أن تريحه قليلاً فقالت له ما رأيك يا ابني أن تذهب معي لنزور أخوالك ونمكث عندهم عدة أيام حتى نغير جوّ وترتاح نفوسنا وتهدأ حالنا ثم نعود وقد جددنا نشاطنا وارتحنا قليلاً ، وكذلك فإننا لم نزر أخوالـك منذ فتـرة طويلـة ، ولا بد أنهم مشتاقون لرؤيتنا ، وكان الأخوال على مسافة بعيدة عن بيت تلك المرأة وابنها . فوافق الابن على مرافقة أمه وركبت الأم وابنها كلّ على بهيمته وسارا حتى وصلا إلى منازل أهلها ، ورحّب أهل المرأة بقدومها وقدوم ابنها واحتفوا بهما وأكرموا وفادتهما ، ومكثا عندهم أكثر من أسبوع من الزمان ، فعادت إلى صاحبنا قوته واستعاد نشاطه وبدأ الإحمرار يزهو على وجنتيه وتحسّن حاله كثيراً .
وبعد هذه الراحة الطويلة عادت الأم وابنها معها إلى منازلهم ، وفي الطريق مرّا على قطيع من الغنم والماعز ، فرأى ابنها تيساً هزيلاً تكاد جوانب بطنه تلتصق ببعضها لشدة الهزال ، ومخاطه يسيل على وجهه وحالته سيئة للغاية ، وعندها تذكر الشابّ حالته وخاطب التيس بصوت عال قائلاً : إلحق أخوالك .. إلحق أخوالك .
وضحكت الأم من سذاجة ابنها وقلة عقله وعادت به إلى بيتهم .
يُحكى أنَّ امرأة عجوزاً كانت تربّي الدجاج ، وكان لديها العديد منها من ديوكٍ وفراريج وكتاكيت وغيرها ، وكانت تعمل لكل مجموعة منها قنّاً خاصاً بها حتى كثرت دجاجاتها وأصبحت ترتزق من ورائها ، فمرة تبيع من بيوضها ، ومرة أخرى تبيع من الديوك الصغيرة ، أما الإناث فكانت تربيها لتزيد من عدد الدجاجات التي تضع البيض .
ودام الحال على ذلك إلى أن سمعت العجوز ذات صباح صراخ دجاجاتها فهبت تهرول نحوها مذعورة لترى ما الذي حلّ بها أو أصابها ، وكان الثعلب قد دخل قنَّـاً وفتك بالعديد مما بداخله من الدجاج ، ومن عادة الثعلب إذا دخل قنّ الدجاج أن يقتل كلَّ الدجاجات التي فيه ، ولكن العجوز باغتت الثعلب ، ولم يكن أمامه شيء من الوقت ليهرب منها ، فرمى نفسه وتظاهر بأنه ميت ، وعندما رأت العجوز دجاجاتها المقتولة والثعلب ملقى بجوارها ، ولسانه يتدلّى خارج فمه وعليه شيء من الزَّبَد فما شكّت بأنه ميت بالفعل ، فقالت : تستحق والله أكثر أيها الغدار اللئيم ، وأمسكته من ذنبه ورمته خارج القنّ ، ولكن ما أن وطأت قدماه الأرض حتى فرَّ مذعوراً وولى هارباً ، وأسقط في يد المرأة العجوز وعرفت أن الثعلب قد خدعها عندما تظاهر بأنه ميت وأضمرت له شراً إن عاد لمثلها .
وعاد الثعلب بعد أيام وفعلَ فعلته الأولى وداهمته العجوز ووجدته ميتاً في القنّ كما وجدته في المرة الأولى ، فقالت : آه أنت ميت ، الآن تموت بصحيح ، وربطته من يديه ورجليه وأحكمت وثاقه ، وأشعلت ناراً كبيرة في كومة قش ورمته فيها ، فأخذ يصرخ بكلّ قواه ، ولكن الحيلة لم تسعفه في هذه المرة فقضى محروقاً .
وهكذا تخلصت العجوز من ذلك الثعلب الماكر الذي فتك بدجاجاتها ، وكاد يقضي على مصدر من مصادر رزقها .
ونحن لا ننصح بمثل هذه الأعمال لأن هذه الحيوانات خلقت تعيش على أكل اللحوم ، وعندما يشتد بها الجوع تلجأ لمثل هذه الوسائل ، وعلينا أن نأخذ حرصنا منها دون أن نؤذيها أو نقتلها .
يُحكى أن شيخاً طاعناً في السنّ ، كانت عنده بعض البهائم ، وكان يُفْلتها من مربطها في الصباح ويتركها ترعى قريباً من البيت ، وفي ساعات المساء كان يطلب من أبنائه أن يعيدوها إلى مكانها ، حتى لا تهيم على وجهها في الليل فتفترسها الذئاب أو تفتك بها الوحوش الضارية .
وكان أولاده يلومونه على هذا التنبيه الذي يكرره على أسماعهم في كل ليلة ويقولون له : يا والدنا ، هل لا يوجد لدينا شُغل إلا هذه البهائم ، فمرة أفلتوا البهائم ، ومرة أعيدوها واربطوها . سئمنا من هذا الأمر !.
فغضب الشيخ وأقسم أن لا ينبههم إلى هذا الأمر مرة أخرى ولا يُذَكّرهم بالبهائم حتى لو أكلتها الوحوش .
وفي اليوم التالي وعندما حلّ المساء وخيّم الظلام على المكان لم يتذكّر أحد من أبناء الشيخ بهائمهم ، وحتى لم تفطن على بال أيّ واحد منهم .
وتأخر الوقت ، وأخذ الشيخ يتململ في مكانه ولما كان قد أقسم ألاَّ يُذكِّرهم بشيء ، فتحيّر ما عساه يفعل في مثل هذه الحالة ، ولم يعدم الشيخ الوسيلة ، بل خرج إلى خارج البيت وأخذ ينهق بصوت عالٍ ، فتذكر الأبناء بهائمهم وخرجوا ليبحثوا عنها ، ولكن الوقت كان متأخراً فقد هامت البهائم على وجهها وابتعدت عن مكان رعيها ، وكان أن هاجمتها الذئاب وفتكت بها جميعاً .
وأسقط في يد الأبناء ولاموا أنفسهم على عدم استماعهم لنصح أبيهم وندموا ولكن بعد فوات الأوان . وهكذا فإن من لم يستمع لنصح والديه يقع في الخطأ ويندم في حين لا ينفع الندم .
كان لأحد الملوك ثلاثة أولاد في غاية الجمال والأدب، وقد بنى لهم قصراً من زجاج ووضعهم فيه، ولم يسمح لهم بالخروج خوفاً عليهم، وكانت إحدى الخادمات تأتيهم بطعامهم في كل يوم ، وهو عبارة عن بيض لا قشر فيه, ولحم لا عظم فيه, وفجل لا ورق فيه, وظلت هذه الخادمة تأتيهم بطعامهم وتخدمهم فترة طويلة، ثم توفيت وصارت تأتيهم بطعامهم خادمة جديـدة فأتـت لهم بالبيـض وقشـره فيه , واللحم وعظمه فيه, والفجل وورقه فيه, فقالوا لها لماذا تأتينا بالطعام على هذه الصورة, وقد تعوّدنا أن يصلنا البيض ولا قشر فيه، واللحم لا عظم فيه، والفجل لا ورق فيه, فقالت لهم : تُقشِّرون البيض فتتسلون بتقشيره, وتأكلون اللحم وتمصمصون العظم فتتسلون بذلك, وقد يعجبكم ورق الفجل فتأكلون منه, فقالوا لها: نِعم الرأي فعلتِ، وأنت على حقّ في ذلك, واستمرت الخادمة تأتيهم بطعامهم على هذه الطريقة مدة من الزمان، وفي إحدى المرات رمى أحدهم بالعظم فكسر زجاجة من القصر وعمل فجوة صغيرة, فنظروا من خلالها إلى العالم الخارجي, وإذا هناك بيوت وأناس ودواب وأراضٍ خضراء, فأعجبهم ذلك المنظر، وقالوا لماذا نحن في هذا السجن, وعندما أتتهم الخادمة قالوا لها قولي لأبينا, إذا كنا بنات نريد أن نتزوج, وإذا كنا أولاداً نريد أن نتزوج, وإذا كنا زرعـاً نريد أن نُحصد .
فأبلغت الخادمة أباهم بذلك ، فذهب إليهم وقال لهم سأزوجكم , وغداً سآمر جميع بنات المملكة بالمرور من تحت القصر , وإذا أعجبت أحدكم واحدة منهن فليرمها بحبة تفاح ، وسوف أزوجها له .
ومرّت البنات .. جميع بنات المملكة مررن من تحت القصر ، وكان أولاد الملك يتفحصون بأنظارهم تلك البنات , ورمى أكبرهم واحدة بحبة تفاح ، وبعد فترة , رمى أوسطهم حبة التفـاح على فتـاة أخـرى ، أما الصغير فلم يرمِ بحبة التفاح التي كانت معه , وأمر الملك البنات أن يمررن مرة أخرى ففعلن , ولكن الابن الأصغر لم يرم إحداهن بتفاحته وكانت هناك فتاة تخلّفت عنهن فأمرها الملك بالمرور فمرّت , فرمى ابن الملك تفاحته عليها , فكانت البنتان التي رماهما الأخوان الأكبر والأوسط ابنتي عميهما , أما التي رماها الابن الأصغر فكانت " غولةً " .
وزوج الملك أبناءه ودخل الأخوان الأكبر والأوسط على عروسيهما وخرجا للناس ، أما الأصغر فلم يخرج , وبقي ثلاثة أيام دون أن يخرج فقلق والده الملك وأهله عليه , وفي الليل تسلل أبوه ونظر من خلال فتحة في القصر فرأى ابنه مرمياً على ظهره وعلى صدره رحىً ثقيلة , وغولة عيونها صفراء كالنار تجْرُشُ عليها , ففزع الملك مما شاهدت عيناه وفرّ هارباً , وأمر جميع قبيلته بالهروب في جنح الظلام , ولم يبقَ خلفهم سوى فرس عجوز هرمة , وعندما أتى الصباح لم يبقَ لهم أثر في المكان , وعاد الابن الأصغر إلى وعيه وطلب من زوجته الغولة أن تسمح له بالخروج ليرى النور , فقالت : لا تحاول أن تهرب , لأنك لو هربت خمسة أعوام فأنا اقطع هذه المسافة في خمسة أيام , وسمحت له بالخروج فرأى النور ولم يرَ أحداً من أهله وقبيلته فتعجّب لذلك , ورأى الفرس الهزيلة وأراد أن يركبها ويهرب من المكان ، فنطقت الفرس وتكلمت وقالت له : أنا فرس هزيلة ولا أستطيع الجري ، وإن هربنا فسوف تلحقنا الغولة وتأكلنا معاً ، فتعال شقَّ بطني واخرج منها مُهرةً واركبها , وستكلمك المهرة كما كلمتك أنا , وخذ معك هذه العيدان الثلاثة، وهي عود أسود ، وعود أحمر ، وعود أبيض ، وعندما تلحقك الغولة ارمِ بالعود الأسـود , فينبت بينك وبينها شوكٌ كثيف يعوقها إلى حين ، فتبتعد عنها ، وعندما تلحقك مرة ثانيه ارمِ بالعود الأحمر , فتهب نيران بينك وبينها تعوقها إلى أن تبتعد عنها , وعندما تلحقك للمرة الثالثة ارمِ بالعود الأبيض فيصبح بينك وبينها سبعة بحور وهكذا تتخلص منها نهائياً .
وفعل الابن الأصغر ما أشارت به الفرس فشقَّ بطنها , وأخرج المهرة وركبها وأخذ العيدان الثلاثة وهرب .
وانتظرت الغولة أن يعود زوجها ولكنه تأخّر وأبطأ عليها فخرجت تبحث عنه وعندما تأكد لها أنه هرب منها ، لحقت به مسرعة حتى اقتربت منه ، فرمى بالعود الأسود فسدّ بينه وبينها شوك كثيف وما استطاعت أن تخلّص نفسها منه إلا بعد جهد ، وقد أصبح على مسافة بعيدة عنها , ولحقت به للمرة الثانية وعندما اقتربت منه رمى بالعود الأحمر ، فشبّت نيرانٌ عالية وحالت بينها وبينه , وما أطفأت قسماً منها ، وفتحت ممراً لها , حتى أصبح على مسافة بعيدة عنها , وعندما لحقت به للمرة الثالثة واقتربت منه ، رمى بالعود الأبيض فسدَّ بينه وبينها سبعة بحور , وهكذا تخلص منها نهائياً .
سار ابن الملك على مهرته وحيداً في البراري بعد أن أمن شرَّ الغولة , وأثناء سيره وجد ريشة طير مكتوب عليها , « مَن يأخذني يندم ومَن يتركني يندم » , فقال في نفسه إذا تركتها فانا نادم وإذا أخذتها فانا نادم , فآخذها وأندم أفضل من أن أتركها وأندم , وهكذا أخذها ، وسار حتى وصل إلى أقرب بلد وبات فيها , وكان مبيته قريباً من قصر ملك تلك البلاد , وفي الليل غنّت الريشة غناءً شجياً ، وطرب ابن الملك لغنائها ، وسمع ملك تلك البلاد ذلك الغناء الشجيّ فقال آتوني بالمغنّي , فبحثوا عن مصدر الغناء وسألوا الناس القريبين من المكان عن مصدر هذا الغناء ، فأنكروا خبره ، وقال بعضهم إنه لم يسمع به ، وأخيراً قال أحدهم ربما يكون مع هذا الغريب ، وعندما سألوه قال نعم ، إنها هذه الريشة ، وهي التي كانت تغني في الليل بذلك الصوت الشجي ، فأخذوه للملك ، وعندما عرف الملك بأن الريشة هي التي كانت تغنِّي ، قال لها : غنِّ يا ريشة ، فقالت لا أغني حتى تأتوني بطَيْرِي ، فقال الملك : ومن يستطيع أن يأتي بطيرك ، فقالت الذي أتى بي يستطيع أن يأتي بطيري ، فقال ملك تلك البلاد لذلك الغريب : أمهلك ثلاثة أيام وثلث اليوم على أن تأتيني بطيرها , وإن لم تفعل ، فسوف أقطع رأسك ، فخاف ابن الملك الصغير وندم على حمله لتلك الريشة وقال هذا أول الندم , وذهب ابن الملك على وجهه , والهمّ يعتصره ويأكل قلبه , ورأته المهرة وهو على هذه الحالة ، فقالت له : ما الذي جرى لك ، ولماذا أنت قلق , فأخبرها بالقصة , فقالت له ، لا تقلق فهذا من أسهل الأمور ، فقال لها : كيف ذلك ، فقالت : اذهب إلى الملك واطلب منه قفصاً ، وحبّةً سوداء وتعال إليّ , فذهب للملك فأعطاه ما طلب , وعاد فدلته المهرة على مكان يضع فيه القفص ويضع فيه الحبة السوداء ، وجاء الطير, ودخل في القفص وأخذ يأكل من الحبة السوداء ، فأغلق ابن الملك عليه القفص , وأخـذه إلى الملك , فقال الملـك : غنِّ يا ريشة ، فقالت لا أغَنِّي حتى يُغَنِّي طيري ، فقال غنِّ يا طير فقال لا أغنّي حتى تأتوني بزوجي ، فقال الملك ومن يستطيع أن يأتيك بزوجك ، فقالت الذي أتى بالريشة ، وأتى بي هو الذي يستطيع أن يأتي بزوجي , فقال الملـك : أمامك ثلاثة أيام وثلـث اليوم , لتأتي به , وان لم تأتِ أقطع رأسك , وسار ابن الملك على وجهه , وهو حيران قلق , والحزن ينهش قلبه , ورأته المهرة وهو على هذه الحال فقالت ما بك هكذا ، وما الذي أصابك فأخبرها بقصتـه , فقالت وهذا هيّن أيضاً , فقال لها وماذا أفعل ، فقالت : عُد إلى الملك واطلب منه عربتين مملوءتين بالألبسة وتعال إليّ , فعاد إلى الملك وأعطاه ما طلب ، فقالت المهرة اذهب الآن إلى السوق وبع هذه الألبسة بنصف الثمن وعندما يأتي زوج الطير سأدلك عليه ، فأغلق عليه الباب وأمسك به .
وذهب ابن الملك إلى السوق وذهبت معه المهرة وصار يبيع الملابس بنصف الثمن وأقل من النصف , وتهافت عليه الناس وبدأوا يزدحمون حوله , وأقبل زوج الطير وأراد أن يشتري فقالت له المهرة هذا هو فقال له ابن الملك ادخل واختر ما تريد من الملابس ، فدخل , وعندها أغلق ابن الملك عليه الباب , وحمله وسار به إلى الملك , فقال الملك غنِّ يا ريشة فقالت لا أغني حتى يغني طيري ، فقال غنِّ يا طير ، فقال لا أغني قبل أن يغني زوجي ، فقال غنِّ يا زوجها , فقال لا أغني حتى تأتوني بخاتمي ، فقال الملك : وأين هو خاتمك ، فقال : سقط في البحر , فقال ومن يستطيع أن يأتيك به . فقال الذي أتى بالريشة والطير وبي , هو الذي يستطيع أن يأتي بخاتمي , فقال الملك أمامك ثلاثة أيام , إذا أحضرت خلالها الخاتم عفوت عنك , وإذا لم تحضره أقطع رأسك .
فذهب ابن الملك وهو يكاد يجنّ ، وهو يضرب كفاً بكف وقد بدا القلق على وجهه وهو يقول : كيف أستطيع أن أُحضر خاتماً قد سقط في البحر ، وأين أبحث عنه يا إلهي ، وفي أي مكان من البحر ؟!
ورأته المهرة وهو على هذه الحال ، فسألته عما حدث له فأخبرها بما طلب منه الملك ، فهدأت من روعه وقالت وهذا أيضاً أمر هيّن ، عد الآن إلى الملك واطلب منه سفينتين مليئتين باللحم وتعال إليّ ، فذهب إلى الملك وأعطاه ما طلب ، وعاد إلى المهرة فقالت أنزل الآن بسفينتيك إلى البحر وارمِ قطع اللحم هنا وهناك في أماكن مختلفة من البحر حتى يخرج إليك ملك السمك وهو الذي سيعطيك مرادك إن شاء الله ، فنزل إلى البحر وصار يرمي قطع اللحم هنا وهناك والسمك يلتهمها بنهم ، ورآه ملك السمك فخرج إليه وقال له : ما بك أيها الرجل ولماذا ترمي هذه اللحوم إلى البحر فقال إني أبحث عن خاتم لي سقط في البحر ، فقال ملك السمك انتظر قليلاً وسأدعو جميع السمك الذي في البحر ، فدعا السمك وأمرها جميعاً أن تقذف ما في بطونها ، ففعلت الأسماك جميعاً ما أمرها به ملكها ولكنهم لم يجدوا الخاتم ، وأخيراً رأوا سمكة متأخرة يبدو عليها التعب والإعياء ، وعندما قذفت ما في بطنها وجدوا الخاتم ، فأخذه ابن الملك وعاد إلى الملك بعد أن شكر ملك السمك ، وأعطى الخاتم للطائر وسأله هل هذا خاتمك فقال نعم ، فقال الملك إذن غنِّ يا ريشة فقالت لا أغني حتى يغني طيري فقال : غنِّ يا طيرها ، فقال لا أغني حتى يغني زوجي ، فقال غنِّ يا زوجها فقال لا أغني حتى تشعلوا ناراً ثلاثة أيام ويدخلها الذي أتى بي إليك ويقف فيها ثم يعود ويخرج إلينا دون أن تمسّه النار بأذى . وأعطى الملك مهلة ثلاثة أيام وثلث لابن الملك التعيس الحظ ليهيئ نفسه للدخول في النار والوقوف فيها ، وشعر ابن الملك بأن نهايته قد اقتربت ، وقال في نفسه لا مفر من الموت في هذه المرة ، ولن أنجو كما نجوت في المرات السابقة .
وأمر الملك بإشعال النار فأشعلوها حامية عالية ، ورأت المهرة آيات القلق والخوف والحزن ترتسم على وجه ابن الملك فسألته عما حدث له ، فأخبرها بقصة النار ، فقالت : أحضِر إناءً وأملأه من عَرَقِي واغسل به جسمك قبل أن تدخل النار بقليل ، وادخل النار فلن تؤذيك بعون الله تعالى ، وعندما جاء اليوم المحدّد غسل ابن الملك جسمه بعرق المهرة ودخل النار أمام الجميع ، ووقف داخلها عدة دقائق فلم تؤثر فيه ولم تؤذه بالمرة ، ثم خرج منها سليماً معافى ، فقال الحاضرون إذا كان هذا الصعلوك الفقير يدخل النار ولا تؤذيه فكيف أنت يا ملك الزمان ، فتجرأ الملك أمام شعبه ودخل النار ولكنه لم يخرج منها فقد أحرقته والتهمته ألسنتها الحامية ، وأراحـت النـاس منه ومن ظلمـه ، وعندها قال الشعب بلسانٍ واحد ، لا يليق بالمُلك علينا إلا هذا الشاب الذي فعل الأعاجيب ودخل النار ولم تحرقه ، ونصبوه ملكاً عليهم ، وغنّت له الطيور في كل يوم وأدخلت الفرحة على قلب الملك الجديد ، وفرح سكان البلدة بملكهم الذي أحبهم ، وحكـم بينهم بالعدل والمحبة .
كان الناس يعتقدون بأن كثيراً من الأماكن المهجورة في الصحراء ، أو بعض الأشجار التي تنبت على جوانب الطرق تكون مسكونة بالجنّ الذي يخرج على الناس ، أو على كلّ من يسير لوحده في ساعات الليل أو المساء أو يمرّ بالقرب من تلك الأماكن في أوقات الظلام ، وكانوا يتجنبون الاقتراب من هذه المواقع في ساعات الليل ، وكذلك يتجنب الواحدُ منهم السير منفرداً في هذا الخلاء .
فكان كلّ من يمر من هناك بالصدفة دون أن يعرف عن قصة هذه المواقع يخرج عليه ساكنُ ذلك المكان من الجنّ ويفزعه ، أو يتصوّر له في هيئاتٍ شتى ثم يفزعه في نهاية المطاف ، وكثيراً ما كان بعض هؤلاء الذين يتعرضون لمثل هذه الحوادث ما يصابون بالجنون ، وحتى أن بعضهم قد يموت من شدة الفزع .
والحكايات حول هذا الموضوع كثيرة ومتعددة ، وتأخذ أشكـالاً مختلفة ، وأحداثها وأبطالها تختلف من بلد لآخر ، وقد يكون في هذه الحكاية ما يوضِّح الصورة ، حول الموضوع الذي نحن بصدده .
يحكى أن رجلاً فقيراً ذهب ليشتري له جدياً صغيراً من سوق غزة قبل عيد الأضحى بفترة حتى يكون سعره رخيصاً ويربيه في بيته ويطعمه حتى إذا ما جاء العيد يكون الجدي سميناً فيذبحه أضحية لأولاده ، وكان من عادة الناس أن يسيروا في ساعات الليل حتى يدركوا السوق مع بدايته في ساعات الصباح الباكر .
وفي الطريق وفي ساعات الظلام الحالك وبينما كان الرجل يسير لوحده كانت هناك شجرة سِدْرٍ كبيرة منفردة على جانب الطريق ، وعندما وصل إليها الرجل وجد جدياً صغيراً يرتعد من البرد ، فقال الرجل في نفسه : يبدو أن هذا الجدي قد ضلّ من قطيع مَـرَّ من هنا في ساعات المساء ، وقال سبحان الله الذي وفَّر عليّ جهدي ومالي ويَسَّر لي بهذا الجدي الهزيل ، وسأعود به إلى عيالي وأطعمه وأعلفه وأسقيه حتى يسمن ، وما أن يحين وقت العيد إلا ويكون جدياً كبيراً فأذبحه أضحية لأولادي .
وحمل الرجل ذلك الجدي على رقبته ثم عاد أدراجه ، وصار يفكّر في هذا الحظ الطيّب وفي تربية الجدي وفرحة الأولاد به ، وسها عن نفسه أثناء تفكيره ، ولكنه أخذ يشعر بأن الجدي الذي يحمله أصبح ثقيلاً ، فاستغرب ذلك ، وأخذ الجدي يكبر ويثقل فنظر إليه الرجل وإذا به قد أصبح تيساً كبيراً ، وإذا برجليه قد طالت أمامه حتى كادت تصل إلى الأرض .
فأدرك الرجل بأن الجدي الذي يحمله ما هو إلا ذلك الجنيّ المعهود الذي سمع عنه والذي يخرج على كلّ من يسير لوحده في ساعات المساء في هذه الطريق الموحشة ، وأدرك أيضاً أنه قد وقع في حبائله فكيف يكون الخلاص منه .
فتململ الرجل واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم رمى الجدي بقوة من على رقبته ، فوقع على الأرض ، وهرب هو بكلّ قواه لا يلوي على شيء ، ووقع منديل الرجل وعقاله من على رأسه فناداه الجدي من خلفه قائلاً : تمهل يا هذا ، فعقالك قد وقع .. تمهل .. عقالك ظلّ .. عقالك ظلّ ..
ولكن الرجل لم يلتفت وراءه ، بل ظلّ يجري حتى ابتعد عن ذلك المكان ، وهو لا يصدق بالنجاة ..
ثم نظر خلفه فلم يجد الجدي قد تبعه ، فتنفس الصعداء وحمد الله ، بعد أن فقد الأمل بالنجاة من أيدي ذلك الشيطان .