كل مواقف المتوكل دعت الامام عليه السلام في آخر المطاف الى التوسل بسهام السحر وسلاح الأنبياء ، فتوجه الى قاصم الجبارين منقطعا إليه متضرعا داعيا على رأس السلطة وأزلامه ، بالدعاء المعروف بدعاء المظلوم على الظالم ، وهو من الكنوز التي توارثها أهل البيت عليهم السلام ، ولم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى أهلكه اللّه تعالى ، لأن دلالة الامام من آل البيت عليهم السلام العلم واستجابة الدعوة فضلا عن النص عليه من آبائه.
روى المسعودي والقطب الراوندي والسيد ابن طاوس في أكثر من طريق بالاسناد عن أبي القاسم البغدادي ، عن زرافة ، قال : « أنه لما كان يوم الفطر في السنة التي قُتل فيها المتوكل ، أمر بني هاشم بالترجّل والمشي بين يديه ، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل له أبوالحسن عليهالسلام ، فترجّل بنوهاشم ، وترجّل عليهالسلام فاتكأ على رجل من مواليه ، فأقبل عليه الهاشميون ، فقالوا له : يا سيدنا ، ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا اللّه! فقال لهم أبو الحسن عليهالسلام : في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم على اللّه من ناقة ثمود ، لمّا عقرت وضجّ الفصيل إلى اللّه ، فقال اللّه : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) (2) ، فقتل المتوكل في اليوم الثالث.
نص الدعاء :
اللَّهُمَّ إِنِّي وفُلان بْن فُلان عبْدان منْ عبيدك نواصينا بيدك تعْلمُ مُسْتقرَّنا ومُسْتوْدعنا
وتعْلمُ مُنْقلبنا ومثْوانا وسرَّنا وعلانيتنا وتطَّلعُ على نيَّاتنا وتُحيطُ بضمائِرنا علْمُك بما نُبْديه
كعلْمك بما نُخْفيه ومعْرفتُك بما نُبْطنُهُ كمعْرفتك بما نُظْهرُهُ
ولا ينْطوي عنْك شيْءٌ منْ أُمُورنا ولا يسْتترُ دُونك حالٌ منْ أَحْوالنا-
ولا لنا منْك معْقلٌ يُحصِّنُنا ولا حرْزٌ يحْرُزُنا ولا هاربٌ يفُوتُك منَّا
ولا يمْتنعُ الظَّالمُ منْك بسُلْطانه ولا يُجاهدُك عنْهُ جُنُودُهُ ولا يُغالبُك مُغالبٌ بمنْعة
ولا يُعازُّك مُتعزِّزٌ بكثْرة أَنْت مُدْركُهُ أَيْن ما سلك وقادرٌ عليْه أَيْن لجأَ فمعاذُ الْمظْلُوم منَّا بك
وتوكُّلُ الْمقْهُور منَّا عليْك ورُجُوعُهُ إِليْك ويسْتغيثُ بك إِذا خذلهُ الْمُغيثُ
ويسْتصْرخُك إِذا قعد عنْهُ النَّصيرُ ويلُوذُ بك إِذا نفتْهُ الْأَفْنيةُ
ويطْرُقُ بابك إِذا أُغْلقتْ دُونهُ الْأَبْوابُ الْمُرْتجةُ
ويصلُ إِليْك إِذا احْتجبتْ عنْهُ الْمُلُوكُ الْغافلةُ تعْلمُ ما حلَّ به قبْل أَنْ يشْكُوهُ إِليْك
وتعْرفُ ما يُصْلحُهُ قبْل أَنْ يدْعُوك لهُ فلك الْحمْدُ سميعا بصيرا لطيفا قديرا
اللَّهُمَّ إِنَّهُ قدْ كان في سابق علْمك ومُحْكم قضائِك وجاري قدرك وماضي حُكْمك
ونافذ مشيئَتك في خلْقك أَجْمعين سعيدهمْ وشقيِّهمْ وبرِّهمْ وفاجرهمْ
أَنْ جعلْت لفُلان بْن فُلان عليَّ قُدْرة فظلمني بها وبغى عليَّ لمكانها
وتعزَّز عليَّ بسُلْطانه الَّذي خوَّلْتهُ إِيَّاهُ وتجبَّر عليَّ بعُلُوِّ حاله الَّتي جعلْتها لهُ
وغرَّهُ إِمْلاؤُك لهُ وأَطْغاهُ حلْمُك عنْهُ فقصدني بمكْرُوه عجزْتُ عن الصَّبْر عليْه
وتغمَّدني بشرٍّ ضعُفْتُ عن احْتماله ولمْ أَقْدرْ على الانْتصار منْهُ لضعْفي
والانْتصاف منْهُ لذُلِّي فوكلْتُهُ إِليْك وتوكَّلْتُ في أَمْره عليْك
وتوعَّدْتُهُ بعُقُوبتك وحذَّرْتُهُ سطْوتك وخوَّفْتُهُ نقمتك فظنَّ أَنَّ حلْمك عنْهُ منْ ضعْف
وحسب أَنَّ إِمْلاءك لهُ منْ عجْز ولمْ تنْههُ واحدةٌ عنْ أُخْرى ولا انْزجر عنْ ثانية بأُولى
ولكنَّهُ تمادى في غيِّه وتتابع في ظُلْمه ولجَّ في عُدْوانه واسْتشْرى في طُغْيانه جُرْأَة عليْك يا سيِّدي
وتعرُّضا لسخطك الَّذي لا ترُدُّهُ عن الظَّالمين وقلَّة اكْتراث ببأْسك الَّذي لا تحْبسُهُ عن الْباغين
فها أَنا ذا يا سيِّدي مُسْتضْعفٌ في يديْه مُسْتضامٌ تحْت سُلْطانه
مُسْتذلٌّ بعنائِه مغْلُوبٌ مبْغيٌّ عليَّ مغْضُوبٌ وجلٌ خائِفٌ مُروَّعٌ مقْهُورٌ قدْ قلَّ صبْري
وضاقتْ حيلتي وانْغلقتْ عليَّ الْمذاهبُ إِلَّا إِليْك وانْسدَّتْ عليَّ الْجهاتُ إِلَّا جهتُك
والْتبستْ عليَّ أُمُوري في دفْع مكْرُوهه عنِّي واشْتبهتْ عليَّ الْآراءُ في إِزالة ظُلْمه
وخذلني من اسْتنْصرْتُهُ منْ عبادك وأَسْلمني منْ تعلَّقْتُ به منْ خلْقك طُرّا
واسْتشرْتُ نصيحي فأَشار إِليَّ بالرَّغْبة إِليْك واسْترْشدْتُ دليلي فلمْ يدُلَّني إِلَّا عليْك
فرجعْتُ إِليْك يا موْلاي صاغرا راغما مُسْتكينا عالما أَنَّهُ لا فرج إِلَّا عنْدك ولا خلاص لي إِلَّا بك
أَنْتجزُ وعْدك في نُصْرتي وإِجابة دُعائِي فإِنَّك قُلْت وقوْلُك الْحقُّ الَّذي لا يُردُّ ولا يُبدَّلُ-
ومنْ عاقب بمثْل ما عُوقب به ثُمَّ بُغي عليْه لينْصُرنَّهُ اللَّهُ وقُلْت جلَّ جلالُك وتقدَّستْ أَسْماؤُك-
ادْعُوني أَسْتجبْ لكُمْ وأَنا فاعلٌ ما أَمرْتني به لا منّا عليْك وكيْف أَمُنُّ به وأَنْت عليْه دللْتني-
فصلِّ على مُحمَّد وآل مُحمَّد فاسْتجبْ لي كما وعدْتني يا منْ لا يُخْلفُ الْميعاد
وإِنِّي لأَعْلمُ يا سيِّدي أَنَّ لك يوْما تنْتقمُ فيه من الظَّالم للْمظْلُوم
وأَتيقَّنُ لك وقْتا تأْخُذُ فيه من الْغاصب للْمغْصُوب لأَنَّك لا يسْبقُك مُعاندٌ
ولا يخْرُجُ عنْ قبْضتك مُنابذٌ ولا تخافُ فوْت فائِت
ولكنْ جزعي وهلعي لا يبْلُغان بي الصَّبْر على أَناتك وانْتظار حلْمك
فقُدْرتُك عليَّ يا سيِّدي وموْلاي فوْق كُلِّ قُدْرة وسُلْطانُك غالبٌ على كُلِّ سُلْطان
ومعادُ كُلِّ أَحد إِليْك وإِنْ أَمْهلْتهُ- ورُجُوعُ كُلِّ ظالم إِليْك وإِنْ أَنْظرْتهُ
وقدْ أَضرَّني يا ربِّ حلْمُك عنْ فُلان بْن فُلان وطُولُ أَناتك لهُ وإِمْهالُك إِيَّاهُ
وكاد الْقُنُوطُ يسْتوْلي عليَّ لوْ لا الثِّقةُ بك والْيقينُ بوعْدك فإِنْ كان في قضائِك النَّافذ
وقُدْرتك الْماضية أَنْ يُنيب أَوْ يتُوب أَوْ يرْجع عنْ ظُلْمي أَوْ يكُفَّ مكْرُوههُ عنِّي
وينْتقل عنْ عظيم ما ركب منِّي فصلِّ اللَّهُمَّ على مُحمَّد وآل مُحمَّد
وأَوْقعْ ذلك في قلْبه السَّاعة السَّاعة قبْل إِزالة نعْمتك الَّتي أَنْعمْت بها عليَّ
وتكْديره معْرُوفك الَّذي صنعْتهُ عنْدي وإِنْ كان في علْمك به غيْرُ ذلك منْ مُقام على ظُلْمي
فأَسْأَلُك يا ناصر الْمظْلُوم الْمبْغيِّ عليْه إِجابة دعْوتي فصلِّ على مُحمَّد وآل مُحمَّد
وخُذْهُ منْ مأْمنه أَخْذ عزيز مُقْتدر وافْجأْهُ في غفْلته مُفاجاة مليك مُنْتصر
واسْلُبْهُ نعْمتهُ وسُلْطانهُ وافْضُضْ عنْهُ [و فُل] جُمُوعهُ وأَعْوانهُ
ومزِّقْ مُلْكهُ كُلَّ مُمزَّق وفرِّقْ أَنْصارهُ كُلَّ مُفرِّق وأَعرْهُ منْ نعْمتك الَّتي لمْ يُقابلْها بالشُّكْر
وانْزعْ عنْهُ سرْبال عزِّك الَّذي لمْ يُجازه بالْإِحْسان. واقْصمْهُ يا قاصم الْجبابرة
وأَهْلكْهُ يا مُهْلك الْقُرُون الْخالية وأَبرْهُ يا مُبير الْأُمم الظَّالمة واخْذُلْهُ يا خاذل الْفئَات الْباغية
وابْتُرْ عُمُرهُ وابْتزَّ مُلْكهُ وعفَّ أَثرهُ واقْطعْ خبرهُ وأَطْفئْ نارهُ وأَظْلمْ نهارهُ وكوِّرْ شمْسهُ
وأَزْهقْ نفْسهُ واهْشمْ شدَّتهُ وجُبَّ سنامهُ وأَرْغمْ أَنْفهُ وعجِّلْ حتْفهُ ولا تدعْ لهُ جُنَّة إِلَّا هتكْتها
ولا دعامة إِلَّا قصمْتها ولا كلمة مُجْتمعة إِلَّا فرَّقْتها ولا قائِمة عُلُوٍّ إِلَّا وضعْتها- ولا رُكْنا إِلَّا وهنْتهُ
ولا سببا إِلَّا قطعْتهُ وأَرنا أَنْصارهُ وجُنْدهُ وأَحبَّاءهُ وأَرْحامهُ عباديد بعْد الْأُلْفة
وشتَّى بعْد اجْتماع الْكلمة ومُقْنعي الرُّءُوس بعْد الظُّهُور على الْأُمَّة
واشْف بزوال أَمْره الْقُلُوب الْمُنْقلبة الْوجلة والْأَفْئِدة اللَّهفة والْأُمَّة الْمُتحيِّرة والْبريَّة الضَّائِعة
وأَدلْ ببواره الْحُدُود الْمُعطَّلة والْأَحْكام الْمُهْملة والسُّنن الدَّاثرة والْمعالم الْمُغيَّرة
والتِّلاوات الْمُتغيَّرة والْآيات الْمُحرَّفة والْمدارس الْمهْجُورة والْمحاريب الْمجْفُوَّة
والْمساجد الْمهْدُومة وأَرحْ به الْأَقْدام الْمُتْعبة وأَشْبعْ به الْخماص السَّاغبة
وأَرْو به اللَّهوات اللَّاغبة والْأَكْباد الظَّامئَة وأَرحْ به الْأَقْدام الْمُتْعبة وأَطْرقْهُ بليْلة لا أُخْت لها
وساعة لا شفاء منْها وبنكْبة لا انْتعاش معها وبعثْرة لا إِقالة منْها وأَبحْ حريمهُ ونغِّصْ نعيمهُ-
وأَره بطْشتك الْكُبْرى ونقمتك الْمُثْلى وقُدْرتك الَّتي هي فوْق كُلِّ قُدْرة
وسُلْطانك الَّذي هُو أَعزُّ منْ سُلْطانه واغْلبْهُ لي بقُوَّتك الْقويَّة ومحالك الشَّديد
وامْنعْني منْهُ بمنْعتك الَّتي كُلُّ خلْق فيها ذليلٌ وابْتله بفقْر لا تجْبُرُهُ وبسُوء لا تسْتُرُهُ
وكلْهُ إِلى نفْسه فيما يُريدُ إِنَّك فعَّالٌ لما تُريدُ وأَبْرئْهُ منْ حوْلك وقُوَّتك
وأَحْوجْهُ إِلى حوْله وقُوَّته وأَذلَّ مكْرهُ بمكْرك وادْفعْ مشيَّتهُ بمشيئَتك وأَسْقمْجسدهُ
وأَيْتمْ وُلْدهُ وانْقُصْ أَجلهُ وخيِّبْ أَملهُ وأَزلْ دوْلتهُ وأَطلْ عوْلتهُ واجْعلْ شُغُلهُ في بدنه ولا تفُكَّهُ منْ حُزْنه
وصيِّرْ كيْدهُ في ضلال وأَمْرهُ إِلى زوال ونعْمتهُ إِلى انْتقال وجدَّهُ في سفال وسُلْطانهُ في اضْمحْلال
وعاقبتهُ إِلى شرِّ مآل وأَمتْهُ بغيْظه إِذا أَمتَّهُ وأَبْقه لحُزْنه إِنْ أَبْقيْتهُ
وقني شرَّهُ وهمْزهُ ولمْزهُ وسطْوتهُ وعداوتهُ والْمحْهُ لمْحة تُدمِّرُ بها عليْه فإِنَّك أَشدُّ بأْسا وأَشدُّ تنْكيلا
والْحمْدُ للَّه ربِّ الْعالمين.
__________________
(1) الثاقب في المناقب : 556 ، الخرائج والجرائح 1 : 417 / 21 ، كشف الغمة 3 : 185.
(2) سورة هود : 11 / 65.