قصص الأحرار
قصة رجال المقاومة الذين هزموا
أسطورة الجيش الذي لا يقهر
الشيخ كاظم ياسين
بسم الله الرحمن الرحيم
1982، وقد اشتعل القتال بين الأخوة، واختلط التناقض الرئيس بالتناقضات الثانوية، وضاعت البوصلة، واحتار الربان مع أي ريح يقود سفينته وإلى أية جهة، نام لبنان على خراج في رأسه امتلأ قيحاً ودماً فاسداً، وامتد ليملأ العيون فسبّب في ضياع البصر والبصيرة، وأمسى العدو لا يعرف من الصديق.
حتى كان يوم السادس من حزيران، حينما تلقت الأمة من عدوها إسرائيل ضربة على وجهها، فقيء الدّمل، وإذا بالغشاوة تتبدد، وتعود عيون الأمة تبصر من جديد، لقد أرادت إسرائيل بتلك اللكمة أن تجهز على الأمل الأخير الباقي في النفوس بعد أن أرهقها خراجها ودماملها، وأراد الله أن تنبعث من جديد، فقيّ لها الاجتياح الإسرائيلي، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ..
جحافل اليهود تقتحم الحدود الدولية للبنان بمئات الدبابات الثقيلة وتحت تغطية جوية كثيفة، مهدت للاجتياح بغارات طالت نصف لبنان تقريباً، في أضخم غزو عرفه لبنان في تاريخه، فكانت قوافل الفولاذ من السلاح والمصفحات والمدافع والخوذات تمتد من مرجعيون ومن البياضة وجزين جنوباً إلى صيدا شمالاً ثم على طول الطريق الساحلي إلى بيروت عاصمة الوطن. وكانت أصوات جنازير الدبابات ومحركات الشاحنات بضجيجها وعجيجها، والرطانة العبرية، تزدحم على طرقات جبل عامل باتجاه بيروت، مركز الحكم ومنظمة التحرير.
كان هدف الغزو ضرب سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية وإخراجهما من لبنان، ثم تغيير الحاكم وإجباره على توقيع اتفاق مع إسرائيل، فيكون لبنان أول دولة عربية تدول في فلك إسرائيل وهو أخطر مراحل تطبيق المشروع الصهيوني في المنطقة العربية.
ولم يتعرض اليهود لمواجهة ذات أهمية في الأشهر الأولى التي تلت الاجتياح، مما ترك أثراً إيجابياً على طبيعة الإحساس بالأمن عندهم، فكانوا يتجولون في الشوارع مطمئنين، فيغادرون آلياتهم ويتساهلون في حمل سلاحهم وارتداء خوذاتهم وستراتهم المضادة للرصاص، ويرتادون الأسواق الشعبية والمقاهي حيث يجلسون ويتسامرون وكأنهم في تل أبيب، بل كانوا يستخدمون الحافلات المدنية لتبديل قواتهم من وإلى لبنان على طول الطريق الساحلي بدلاً من الشاحنات العسكرية، ووصل الأمر ببعضهم إلى الدخول إلى بعض البيوت بل والاستحمام عراة على الشواطئ اللبنانية وكأن شيئاً لم يكن.
وكاد يمضي صيف سنة 1982 والطقس مازال حاراً، وأمواج البحر تداعب رمال الشاطئ بأقل ما يسمع من الهمس بين الموجة والرمال الذهبية، وبساتين الليمون تعبق برائحة الأوراق الخضراء وبقايا الموسم، تهزها بين الفينة والفينة نسائم قِبلية، للطفاتها لا تكاد تحرك من الشجرة إلا أوراقها تحريكاً خفيفاً.
والجنود عراة، يلهون ويعبثون بمياه البحر ويتصارخون وقد تركوا أسلحتهم قرب المجنزرة الساكنة الهادئة .. بينما كانت تتعالى منهم ضحكات ماجنة، ورطانة عبرية، فتخدش السكون والهدوء.
وبين تلك الشجيرات القريبة من الشاطئ، كان لون المجنزرة الإسرائيلية، أيضاً، بقتامته التي تختلف كثيراً عن الألوان الأخرى في الصورة من زرقة الماء الذهبية والرمال وخضرة البساتين، يضفي على المنظر حزناً وكآبة..
وفي أسواق المدينة الجنوبية، صور، عروسة جبل عامل، التي تعج كعادتها عند كل صباح بالباعة والمشترين والسيارات التي تزدحم عند (البوابة)، حيث يتركز سوق المنطقة ويُقصد من معظم سكانها، كان الازدحام طبيعياً وكان يتبين بين الناس جنود بثياب عسكرية وبدون سلاح أحياناً يدخلون إلى الحوانيت ويخرجون متسوقين وهم يثرثرون بلغة لا يفهمها الآخرون، وأصحاب الحوانيت وتلك البسطات التي امتدت على جانبي الطريق .. ولكنهم كانوا لا يبذلون جهداً كبيراً في إحراز عقود للبيع معهم تعتمد على عربية مكسرة من الطرفين. فقد كاد الشيكل يتحول إلى عملة مقبولة حتى في التداول الشعبي.
.. وبين السيارات المزدحمة كانت تتسلل وبهدوء دراجة نارية أخذت تتجاوز السيارات تارة وتخطف المرور بينها، أو تقفز إلى الرصيف إذا لم يمكن تجاوز السيارات المتوقفة تارة أخرى .. ثم انعطفت باتجاه المرفأ فزادت سرعتها رويداً رويداً، وبحيث أنها لفتت انتباه المارة اندفعت منطلقة بسرعة حتى سارت أمتاراً على دولابها الخلفي.. ولم يأبه قائدها الشاب ولا الشاب الذي أردفه خلفه والذي كان يطوق زميله بيديه بهذه الحركة البهلوانية.. وخلال ثوان وصلت إلى محاذاة الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يقفون قرب باب المرفأ، وبسرعة خاطفة كانت يد أحدهما ترمي قنبلة يدوية أخذت تتدحرج حتى استقرت بين أقدام الصهاينة المحتلين.. وبينما كانت الدراجة النارية تزأر مبتعدة، كان دوي الانفجار يصمّ الآذان، واليهوديان يتخبطان مضرجين بدمائهما..
اندفع فارس حاوي يقود الدراجة النارية مبتعداً فيما كان عبد الله فنيش يحتضنه، والابتسامة تعلو شفتيهما، رغم الرماية الغزيرة من قبل المحتلين، ورغم الذعر الذي ساد البواب وفرار الناس في كل اتجاه..
واشتعلت منطقة صور أو كما سماها المحتلون، مثلث الحديد، بالنار، واستنفر العدو قواته وأقفل الطرقات وسير دورياته في مختلف طرقات المنطقة، وابتدأت موجة جديدة من الاعتقالات.
في هذا الكتاب، قصة أولئك الذين واجهوا الأسطورة في أوجها وفي عزها، عندما كان الخوف واليأس يشعشعان في قلب وعقل أمتنا، إنهم الرجال الأوائل، والمجموعات الأولى التي عملت في داخل مناطق الاحتلال، وراء خطوط العدو وبين مواقعه وتحت إرهابه وسطوته وجبروته طول سنوات الاجتياح، وشكلت النواة الأولى للمقاومة الإسلامية، فعاشوا بعيداً عن الأضواء وعن الإعلام، مطاردين من بيت إلى بيت ومن قرية إلى قرية في جبل عامل، حتى سقطوا شهداء واحداً تلو الآخر وانتشرت أضرحتهم على طول وعرض جبل عامل من باتوليه إلى طيردبا إلى سلعا إلى معروب إلى الغازية.