ورأيت الهادي مشغولاً بتزيين الحجرة، وترتيب مائدة وكراسي من ذهب وفضة، وقد تدلّى من السقف قنديل يسطع ضوؤه كالشمس.
فسألته: « ماذا حدث حتّى أراك منهمكاً هكذا في تزيين هذه الحجرة مع أنّنا مسافران عنها ؟ ».
قال: « سمعت أنّ الأئمّة وأولادهم الذين كنت قد زُرتَ قبورهم، والعلماء الذين ذكرتَ أسماءهم في صلواتك الليلية أو قرأت الفاتحة على قبورهم، قد سمعوا بقصدك السفر إلى الآخرة، فعزموا على زيارتك لأداء حقّك ».
فقلت: « ما أسعدني بهذا التوفيق ! » وزال عنّي ما قد ران عليّ من حزن وهمّ بسبب زيارتي لأهل بيتي، وانتابني فرح شديد لهذا الخبر السارَ (1).
قلت للهادي: « إنّ هذه الحجرة صغيرة ».
فقال: « إنّها صغيرة عليك، ولكنّها سوف تتّسع بقدومهم ».
وفجأة حضروا بوجوه نيّرة وبكلّ عظمة وجلال. وجلس كلّ في مكانه بحسب منزلته، وكان المقدم عليهم جميعاً أبا الفضل العبّاس عليه السّلام وعليّاً الأكبر عليه السّلام فجلسا على منصّة كبيرة، ولكنّهما كانا يلبسان لأمة الحرب، فعجبتُ من ارتدائهما لأمة الحرب في عالم ليس فيه تزاحم ولا تعاند مطلقاً.
كنت أنا والهادي وبعض الحاضرين واقفين، وقد بهرني جمالهما وجلالهما، ولم تعد عيني تطيق التحول عنهما.
التفتَ أبو الفضل عليه السّلام إلى الهادي وسأله إن كان قد تسلّم تذكرة العبور من أبيه، فأجاب بالإيجاب؛ ثمّ تلا:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إنْ اسْتَطَعْتُم أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطَارِ السَّماواتِ والأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ (2).
ثمّ التفت إليّ وقال: « اُبشّرك بالفلاح، فإنّ سلطان ولاية أبي هي تذكرة نجاتك ». فقبّلت الأرض بين يديه امتناناً، ووقفت أبكي من شدّة فرحي بحصول هذه اللقيا.
وسمعتُ حبيب بن مظاهر ـ الذي كان يقف إلى جواري ـ يخاطبني قائلاً: « لا تخشَ شيئاً في رحلتك المحفوفة بالمخاطر هذه، ولا تيأس من خلاصك؛ لأنّ هؤلاء العظام وآباءهم المعصومين لن ينسوك، فإنّ قدومهم كان بأمر من آبائهم، فهم يُدركون شيعتهم ومحبّيهم في اللحظة الأخيرة، وأمّا هذا اللقاء فهدفه تطمينك وتهدئة روعك، كما أنّ السيدة زينب عليها السّلام تبلّغك سلامها وتقول: إنّها لا تنسى مسيراتك راجلاً للذهاب لزيارة أخيها الحسين عليه السّلام وما كنتَ تلاقيه خلال الطريق من صعوبات ومشاق وجوع وعطش وبكاء »، فقلت: « عليك وعليها السّلام منّي ورحمة الله وبركاته ».
وسألته لماذا يلبس هذان السيّدان لأمة الحرب من بين جميع الحاضرين، مع أنّه لا حرب عندنا هنا ؟
فتغيّر لون حبيب وامتلأت عيناه بالدموع، وقال: « إنّ عزمهما وإرادتهما في كربلاء على أن يبيدا وحدهما ذلك الجيش الجرّار، لم يتحقّق لهما بسبب المقادير الإلهية التي شاءت أن يحصل ما حصل فلم يستطيعا أن يحققا إرادتهما الحديدية، فبقي ذلك عزيمةً وهمّةً في صدريهما حتّى الآن، وهما ينتظران زمان الرجعة ليُطلقا همتيهما من صدريهما، فتلك العزيمة هي التي تبدو لك في صورة لأمة الحرب ».
إعراض الأهل والأحبّة
ثمّ ذهب الجميع وبقيت وحدي مع الهادي. عادت الحجرة إلى حجمها الصغير السابق، وزالت عنها معالم الفخامة والزينة. وقلت للهادي: « إنّني لن أذهب مرّةً اُخرى إلى عائلتي، لأنّني يائس من إحسانهم، على الرغم من أنهم يعملون أشياء باسمي، ولكنّها أعمال ظاهريّة فقط، ولا هدف لها سوى دنياهم، ولا حاصل لها سوى زيادة حزني وتعاستي، لذلك سوف أقنع بما عندي، وأصبّر نفسي في المخاطر معتمداً على رحمة الله بفضل هؤلاء العظام ».
فقال الهادي: « إنّك الآن لست محتاجاً إلى شيء، ففي المنازل الأوّلية الثلاثة التي تبدأ من السنة الخامسة عشرة، وهي سنة التكليف، حتّى السنة الثامنة عشرة، وهي سنة الرشد واستحكام القوة العقلية، لا توجد عقوبات مهمّة على مخالفة الواجبات والمحرّمات، بسبب ضعف العقل وقوّة الشهوات والأهواء (3). وقد خلق الله العقل أوّلاً، وقال: بك اُعاقب، وبك اُثيب. أي إنّ العقل هو الذي يدور حوله العقاب والثواب، وعليه فإنّ المنازل الثلاثة الاُولى من الرحلة في هذا العالم تكون في الأرض المسموحة، كالمسامحة في أوائل التكليف. وليس فيها مخاطر كبيرة، وإذا كان فيها بعض المخاطر فإنّها سرعان ما تنتهي وتزول. وعليه فلا حاجة لك في مرافقتي، بل سأذهب لأنتظرك في المنزل الرابع. فعليك أن تحمل غداً جرابك على ظهرك، وتسير في هذا الطريق اللاحب المتوجّه إلى القبلة إلى أن تصل إليّ ».
الحلقة الثامنة - التزود للسفر في الحياة الجديدة
_______________________
1ـ جاء في (الكافي) بسند معتبر عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّ في مغرب هذا العالم بستاناً يستقي من الفرات، وأنّ أرواح المؤمنين تتنعّم صباحاً ومساءً بنعم الله في ذلك البستان الكثير الخيرات، فيلتقي بعض بعضاً وتتعارف وتتزاور، فإذا أصبح الصباح خرجت من ذلك البستان وطارت في الفضاء جيئة وذهاباً، وعند طلوع الشمس تتفقّد قبورها. وفي شرق هذا العالم نار خلقها الله لأرواح الكفّار المذنبين والناجين، فهي تسكن تلك النار وتطعم طعاماً مرّاً وتشرب من ماء حارّ عفن.
2ـ الرحمن / 33.
3ـ إنّ موضوع سنوات البلوغ الاُولى وكونها ذات عقوبات أقل لأنّها فترة اختبار، لم ترد فيه روايات خاصّة، إذ من الممكن في بعض الأشخاص أن لا يبلغ عقله مبلغ الرشد حتّى في الثمانين أو المائة من عمره، بل تظلّ فيه حالة الحيوانية والجهل وتتفاقم يوماً بعد يوم.