كنت أرى فتىً صغير السن يجلس إلى جانب أبي الفضل، يسطع نوراً كالشمس، بحيث لم نكن نتحمّل نورانيّته، وكانت العظمة والجلالة تقطر منه، وكان أبو الفضل يتحدّث إليه أحياناً بتواضع، فكان واضحاً أنّه يجلّه ويحترمه.
سألت الهادي عنه فقال: « لا أعلم، ولكن يُحتمل أن يكون هو صاحب الصوت الذي كان يتلو القرآن ».
سألت شخصاً كان يتقدّمنا، فقال: « لعله عليّ الأصغر، الحجّة الحسينيّة الكبرى. والدليل على ذلك هو هذا الخط الأحمر الذي يمرّ على رقبته النيّرة فيزيدها جمالاً ».
قلت: « ما أجدرنا أن نعود من أجل أخذ الثأر، ليتهم يرجعوننا!».
هنا توجّه أبو الفضل العبّاس عليه السّلام إلى حديثنا، وقال « سيحدث هذا قريباً إن شاء الله: وَأُخْرى تُحبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (1).
إلاّ أنّني أيقنت أنّ ذلك الشابّ هو عليّ بن الحسين، وقد بقيت مبهوتاً بجماله وجلاله، بحيث إنّي لم أستطع أن أرفع عينيّ عنه، على الرغم من أنّ هذا يعتبر بعيداً عن التأدّب. كان جلاله يُبعد، وجماله يجذب، فكنت واقعاً بين هذين المحظورين المتضادين، وجسمي يرتجف.
ويبدو أنّه تنبّه إلى حالي فأرسل إليّ خِلعة خلعوها علَيّ، فعلمت من هذه الالتفاتة الكريمة أنّه أدرك ما بي من شغف وتعلّق به، فسجدتُ شكراً لله، وهدأ اضطراب قلبي بعد معرفتي بالمحبّة المتبادلة بيننا.
طلب الهادي أن نرجع إلى البيت لأخذ قسطٍ من الراحة، أو أن نتمشّى للسياحة في هذه البساتين النضرة، خاصّة بعد أن نِلْنا التوقيع وفُزنا بالخلعة.
فقلت في نفسي: إنّ هذا المسكين لا يعرف شيئاً عن الأسباب والدوافع التي تكون خارج نطاق العقل والمنطق، لذلك فهو لا يدري بمدى تعلّقي بهذا المجلس وبأهله، وبأنّي لا طاقة لي على مفارقته.
قلت للهادي: « إنّني في هذا المجلس لا يساعدني لساني على النطق، فاسأله لماذا خلع عليّ هذه الخلعة، مع أنّي لا أراني جديراً بنظرة منه، بَلهَ خلعة عظيمة كهذه ». فتقدم الهادي بالسؤال نيابة عنّي.
فقال عليّ بن الحسين عليه السّلام: « عندما قرأ على المنبر آية: يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأنْذر (2) وذكر شأن نزولها، وطبّقها عليّ في الوقت الذي كان أبي ينادي: « هل من ناصر ينصرني ؟! » وبكيت أنا في الخيمة، سررت بذلك التطبيق، بل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد سُرّ أيضاً، ولهذا وهبته الخلعة وإن لم تكن تليق بشأنه، إلاّ أنّها تناسب هذا العالم، فما في هذا العالم ليس سوى ظلّ للأصل، ولكنّه عندما يصل إلى الموطن الأصلي سوف يصل إلى الحقائق الصرفة حيث: ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ».
وفجأة قاموا وركبوا خيولهم فطارت خارجة من المدينة إلى حيث مقامهم الشامخ. فأمسكت بيد الهادي وعدنا إلى البيت وأنا حزين على فراقهم.
في البيت لم يكن للأشياء مظهرها السابق، فقد تقطّعت خيوط تعلّق القلب بها.
قلت: « فلنرحل غداً ».
فقال: « لنا أن نستريح هنا مدّة عشرة أيّام ».
قلت: « تصعب عليّ حتّى عشر دقائق. فلن يقرّ لي قرار حتّى ألحق به، وأكون إلى جواره ».
قال: « ما أشدّ طمعك! لا يمكن تجاوز الحدود في هذا العالم. إنّنا هنا لسنا في دنيا الجهل حتّى ينتابنا الأسف أو الرغبة، أو يمكن تخطّي العدالة قيد شعرة. اللهمّ إلاّ شاؤوا هم التعطّف على بعض الأحبّة، أما جريان الأهواء والرغبات فلا. إنّهم في أوج العزّة وأنت في حضيض تراب المذلّة، فما للتراب وربّ الأرباب، حتّى لو لم تهدأ لوعتك ».
ما كان في اليد حيلة سوى الصمت والسكوت، إذ إنّ حالي كان من المتعذّر شرحه بالمقاييس المنطقيّة، ولم يكن الهادي يعرف منطقاً سواه، لذلك أطبقتُ فمي وفوّضت أمري إلى الله.
قال الهادي: « تعالَ نتفرّج فيما بين هذه البساتين والحدائق الغنّاء ».
فذهبنا، ولكن لم يكن شيء ليزيل غمّي، فكلام الحبيب أطيب الكلام.
الحلقة التاسعة عشر - تسلّل أحد علماء السوء
_____________________1ـ الصفّ / 13. وجاء في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي أنّ المقصود من هذا الفتح القريب الذي يشترك فيه أهل الجنّة هو ظهور القائم عليه السّلام وانتصاره وانتقامه من أعداء شيعة آل محمّد صلّى الله عليه وآله.
2ـ المدّثّر / 1 و 2.