عند باب الخيمة سلّمت، فعرفتْ ابنتي صوتي، فخرجتْ مع خدمها هارعة. وبعد تبادل الأسئلة وتقديم الحمد لله تعالى على نعمه، دخلنا الخيمة وجلسنا على سُرُر مرصّعة بالمجوهرات، هي وخدمها في صفّ، وأنا ومن معي في صفّ.
مُتَّكِئينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ .
فالتقابل خير من التجانب.
سألتها: « كيف جَرَت عليكِ الأُمور في هذه الرحلة ؟ ».
فقالت: « لقد رأيتُ بعض المصاعب في المنزل الأوّل، وفي أرض الحسد عانيت من بعض الضغوط. ولعلّ معظم المسافرين يعانون من ذلك، بل أشدّ منه. وفي بعض المنازل فهمتُ أنّ نجاتي كانت بسببك، فدعوت لك واستنزلت عليك الرحمة من الله، حتّى أنّه عندما حان وقت سفر أُختي إلى هذا العالم، كما قرب موعد سفرك، دعوت الله أن يشفيك من مرضك لكي لا تُحرَم والدتي وأخواتي الأُخريات من الاستظلال بظلّك، ولئلاّ ينالهم شيء من الذلّ ».
سألتها: « ما أخباركِ عن أُختك التي رحلت إلى هذا العالم ؟ ».
قالت: « رأيت أُختي هنا، وكانت أرفع منّي درجة في الجلال والعظمة، وعندما سألتها عن المشاقّ قالت بأنّها لم تر شيئاً من ذلك، وأنّها لم تأت راجلة، ولكنّها شاهدت أرض المسامحة أو بعضاً منها، وطوت الباقي بطيّ الأرض ».
قلت: « سبب ذلك هو أنّها رحلت إلى هذا العالم وعمرها ثماني عشرة سنة، فلم تجد متّسعاً من الوقت لتثقل نفسها بالأحمال والصعاب ».
واستغرقت في التفكير، تُرى ما النواقص التي كانت في وجودي وفي أحوالي وأعمالي بحيث إنّي تعرضت لتلك المصاعب التي نجوت منها الآن، مع أنّ أبنائي المسافرين في هذه المرحلة مرفّهون وفي خير حال!
بعد التمعّن والتفحّص الكامل في زوايا قلبي عثرت على بذرة هذه النبتة، وعرفت من أين تنبع، وإلى أين تصل.
كانت ابنتي صفيّة تتلوّى ألماً لكونها لا تعرف كيف تحلّ عقدة قلبي، وكانت تعجب كيف يكون في دار السرور موضع للحزن والتألّم.
سرّ العشق
قلت لها: « هوّني عليكِ، فحلّ هذه العقدة ليس في يدك ».
ولم أكشف لها عن سرّ قلبي الخفي، لأنّها ما كانت لتفهمني، ولا كان في ذلك أيّ نفع، فأهل العالم الأعلى يدركون كلّ شيء. أمّا الحبّ الذي تختفي بذرته في التراب، فلا يطلبه سوى ذلك الإنسان الترابي الذي يعشق ويطلب العشق.
قلت لصفيّة: «أُريدُ أن أتمشّى بمفردي بين تلك البساتين البعيدة، لأختلي بنفسي، فلعلّ في ذلك حلاًّ لعقدتي».
قالت: « حيثما ذهبت فلن تكون وحدك. هناك الجبل والوادي، والسهل والبستان والمرج، وكلّ ذرّة فيها ذرّة من شاعر حسّاس ».
قلت: « إنّها ليست في أُفقي ».
قالت: « إذا لم نكن من المحارم فالخير أن تأذن لنا بالذهاب ».
قلت: « لولا هديّة الزهراء عليها السّلام لأذنت لك ».
وقمت أمشي. وكلّما وصلت إلى غصن شجرة انحنى نحوي قائلاً: أيّها المؤمن، كُلْ من ثماري. وعلى الرغم من جمال تلك الأصوات، إلاّ أنّها كانت في أُذني كنعيب الغربان.
ورفعتْ شجرة أطراف أغصانها وقالت في نفسها: «إذا لم تكن تحبّ هذا فلِمَ أتيت ؟».
وقالت أُخرى: « لعلّه ملَك لا يأكل! ».
وقالت ثالثة: « بل لعلّه حيوان لا يطعم النبات! ».
وقالت رابعة: « لعلّه مجنون، ولكن ليس هنا مكان للمجانين! أو لعلّه يتدلّل ».
وقالت أُخرى: « اسكتوا، لقد جاء من أرض القحط إلى أرض الوفرة، فانبهر وسُدّت شهيّته ».
وتوالت الأقوال من كلّ شجرة، والملاحظات من كلّ غصن.. فقلت: العَود إلى الخيمة أفضل وأحمد. ورجعت، فرأيت الهادي واقفاً بباب الخيمة ينتظرني. وإذ أبصرني تقدّم نحوي، فقلت: لعلّ كاتم أسراري هذا يستطيع أن يحلّ عقدتي.
وتلاقينا، وبعد السلام قال: « أين أنت ؟ تهيّأْ للرحيل إلى المدينة، فالعلماء والمؤمنون بانتظارك ».
قلت: « لماذا نذهب إلى المدينة ؟ ».
فقال: « يا إلهي! إذن لماذا قطعت كلّ هذا الطريق ؟! ».
قلت: « لا أدري لماذا جيء بي إلى هنا ».
قال: « لا تكفر بنعمة الإتيان بك من تلك الظلمة إلى هذا العالم النيّر؛ لكي تتمتّع بنعم الله وتكون في سرور دائم ».
قلت: « أيّة نعمة هذه ؟ وأين أجد لذّتها ؟ وأين سرور القلب مع تذكّر مصائب فراق الأحبّة ؟! ألم تر أبا الفضل وعليَّاً الأكبر يرتديان لأْمة الحرب في تلك الليلة، أم إنّك لم تفهم معنى ذلك ؟ ألم تر الخطّ الأحمر تحت رقبة عليّ الأصغر، أم إنّك لم تفهم معنى ذلك ؟
إنّ من يعرف هؤلاء ويحبّهم حقيق به أن يموت من ألم الفراق وينصرف عن الأكل والشرب والمسرّة والانشغال بالحور العين وبالقصور! إنّني لست مبطاناً ولا أنانياً بالقدْر الذي تظنّ ».
فقال: « أتحسب أنّ كلّ أُولئك العلماء والمؤمنين المسرورين الموجودين هناك مع الحور والقصور ليسوا من محبّي أهل البيت، أو أنّ دماءهم لا تفور من أجل الانتقام ؟ ثمّ إنّ الظالمين مبتلون بالانتقام الإلهيّ الآن ».
قلت: « المرء أبصر بحاله. إنّني ما لم أنتقم فدار السرور عندي بيت الأحزان، والنعم عليّ نقم. أمّا لماذا يحسّ الآخرون بالفرح والسرور وغير ذلك، فالسؤال يجب أن يوجّه إليهم هم لا إليّ أنا. وأمّا ابتلاء الظالمين بالانتقام الإلهي الذي هو أشدّ من انتقامنا، فلست أشكّ فيه، ولكنّك لابدّ أن تعترف بأنّ المظلوم إذا لم ينزل القصاص بيده ولم ينتقم بنفسه فلن يبرد قلبه، ولهذا ثبت للورثة حقّ القصاص، وإن قام شخص آخر بإنزال عقاب أشدّ بالظالم.
لقد قال تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنْ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (1).
إنَّ الانتقام حبيبنا، وما لم نصل إلى هذا الحبيب، فلن يكون لنا دار سرور، لا أنّها موجودة وأنا لا أُريدها.
والخلاصة أنّ الجنّة ودار السرور وغير ذلك من الأسماء إنّما تعني انبساط النفس وبلوغ المراد، وكلّ ما عدا ذلك فضول ».
أطرق الهادي برأسه برهة من الزمن صامتاً، ثم رفع رأسه وسأل: « أتبقى هنا ؟ ».
قلت: « كلاّ ».
قال: « أين تذهب إذن ؟ ».
قلت: « لا أدري، فلا أعرف لي مستقرّاً. كلّ الذي أدريه هو أنّني حيثما أكون فإنّي في عذاب. سوف أهيم في الصحراء وأفترش التراب ».
لم يجد الهادي بُدّاً من الرضوخ، فعاد إلى المدينة، وقلت لابنتي صفيّة: « إذا شئت فارجعي إلى موطنك، فلا شأن لي بك. وإذا وصلت إلى الصدّيقة الزهراء عليها السّلام فأبلغيها سلامي وأعلميها بأحوالي ».
فذهبتْ بمن كان معها، وانتحيتُ أنا ناحية خالية ورحت أبكي وأنوح وأدعو.
الحلقة الرابعة والعشرون - على مشارف عاصمة وادي السلام و الأعمدة الخمسة وعمود الولاية
___________________1- الصف: 13. سبق أن قلنا أنّ من البشائر لأهل الجنّة هو عودتهم إلى دار الدنيا مع إمام العصر والزمان عليه السّلام والانتقام من الظالمين. وقد فُسّرت هذه الآية بظهور الإمام عجّل الله تعالى فرجه.