Ads 468x60px

الاثنين، 12 أغسطس 2013

هو يقص عليك الحكاية

هو يقص عليك الحكاية

قال السيد الجليل صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة رضي الدين علي بن طاووس في رسالة المواسعة والمضايقة: يقول على بن موسى بن جعفر بن طاووس: كنت قد توجهت أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد بن القاضي الأوي ضاعف الله سعادته، وشرف خاتمته من الحلة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه ) في يوم الثلاثاء السابع عشر جمادى الأخرى سنة إحدى وأربعين وستمائة فاختار الله لنا المبيت بالقرية وتوجهنا منها أوائل نهار يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور.

فوصلنا إلى مشهد مولانا علي (صلوات الله وسلامه عليه) قبل ظهر يوم الأربعاء المذكور فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الأخرى المذكور فوجدت من نفسي إقبالاً على الله وحضوراً وخيراً كثيراً فشاهدت ما بدل على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة فحدثني أخي الصالح محمد بن محمد الأوي (ضاعف الله سعادت) أنه رأى في تلك الليلة في منامه كأن في يدي لقمة وأنا أقول له هذه من فم مولانا المهدي (ع) وقد أعطيته بعضها.

فلما كان سحر تلك الليلة كنت على ما تفضل الله به من نافلة الليل فلما أصبحنا به من نهار الخميس المذكور دخلت الحضرة حضرة مولانا علي (ع) على عاداتي فورد علي من فضل الله وإقباله والمكاشفة ما كدت أسقط على الأرض ورجفت أعضائي وأقدامي وارتعدت رعدة هائلة على عوائد فضله عندي وعنايته لي وما أراني من بره لي ورفدي وأشرفت على الفناء ومفارقة دار الفناء والانتقال إلى دار البقاء حتى حضر الجمال محمد بن كنيلة وأنا في تلك الحال فسلم علي فعجزت عن مشاهدته وعن النظر إليه وإلى غيره وما تحققته بل سألت عنه بعد ذلك فعرفوني به تحقيقاً وتجددت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة وبشارات جميلة.

وحدثني أخي الصالح محمد بن محمد بن الأوي ضاعف الله سعادته بعدة بشارات رواها لي منها أنه رأي كأن شخصاً يقص عليه في المنام مناماً ويقول له قد رأيت كأن فلاناً- يعنى عني- وكأنني- كنت حاضراً لما كان المنام يقص عليه- راكب فرساً وأنت- يعنى الأخر الصالح الأوي- وفارسان آخران قد صعدتم جمعياً إلى السماء قال فقلت له: أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم لا أدري فقلت: أنت- يعنى عني- ذلك مولانا (صلوات الله وسلامه عليه).

وتوجهنا من هناك لزيارة أول رجب بالحلة فوصلنا ليلة الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة بحسب الاستخارة فعرفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة ان شخصاً فيه صلاح يقال له: عبد المحسن من أهل السواد (يعنى قرى العراق) قد حضر بالحلة وذكر انه قد لقيه مولانا المهدي (ع) ظاهراً في اليقظة وقد أرسله إلى عندي برسالة فنفذت قاصداً وهو محفوظ بن قرا فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الأخرى المقدم ذكرها.

فخلوت بهذا الشيخ عبد المحسن فعرفته هو رجل صالح لا يشك النفس في حديثه ومستغن عنا وسألته فذكر أن أصله من حصن بشر وأنه انتقل إلى الدولاب الذي بإزاء المحولة المعروفة بالمجاهدية ويعرف الدولاب بابن أبي الحسن وأنه مقيم هنام وليس له عمل بالدولاب ولا زرع ولكنه تاجر في شراء غليلات وغيرها وأنه كان قد ابتاع غلة من ديوان السرائر وجاء ليقبضها وبات عند المعيدية في المواضع المعروفة بالمحبر.

فلما كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيدية فخرج فقصد النهر والنهر في الجهة المشرقة فما أحسن بنفسه إلا هو في تل السلام في طريق مشهد الحسين (ع) في جهة المغرب وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين وستمائة التي تقم شرح بعض ما تفضل الله علي فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين (ع).

فجلست أريق ماءً وإذا فارس عندي ما سمعت له حساً ولا وجدت لفرسه حركة ولا صوتاً وكان القمر طالعاً ولكن كان الضباب كثيراً فسألته عن الفارس وفرسه فقال: كان لون فرسه صدءاً (أحمر غامق مائل للسواد) وعليه ثياب بيض وهو متحنك بعمامة ومتقلد بسيف فقال الفارس لهذا الشيخ عبد المحسن: كيف وقت الناس؟ قال عبد المحسن: فظننت أنه يسأل عن ذلك الوقت قال فقلت الدنيا عليه ضباب وغبرة فقال ما سألتك عن هذا أنا سألتك عن حال الناس قال، فقلت: الناس طيبين مرخصين أمنين في أوطانهم وعلى أموالهم.

فقال: تمضي إلى ابن طاووس وتقول له كذا وكذا وذكر لي ما قال (صلوات الله عليه) ثم قال عنه (ع) فالوقت قد دنا فالوقت قد دنا قال عبد المحسن فوقع في قلبي وعرفت نفسيه أنه مولانا صاحب الزمان (ع) فوقعت على وجهي وبقيت كذلك مغشياً علي إلى أن طلع الصبح قلت : له فمن أين عرفت أنه قصد ابن طاووس عني؟ قال ما أعرف من بني طاووس إلا أنت وما في قلبي إلا أن قصد بالرسالة إليك قلت: أي شيء فهمت بقوله (ع): (فالوقت قد دنا فالقوت قد دنا) هل قصد وفاتي قد دنا أم وقت ظهور (صلوات الله عليه)؟ فقال: بل قد دنا وقت ظهوره (صلوات الله عليه).

قال: فتوجهت ذلك الوقت إلى مشهد الحسين (ع) وعزمت أنني ألزم بيتي مدة حياتي أعبد الله تعالى وندمت كيف ما سألته (صلوات الله عليه) عن أشياء كنت أشتهي أساله فيها.

قلت له: هل عرفت بذلك أحداً؟ قال: نعم عرفت بعض من كان عرف بخروجي من المعيدية وتوهموا أني قد ضللت وهلكت بتأخيري عنهم واشتغالي بالغشية التي وجدتها ولأنهم كانوا يروني طول ذلك النهار يوم الخميس في أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه (ع) فوصيته أن لا يقول ذلك لأحد أبداً وعرضت عليه شيئاً فقال: أنا مستغن عن الناس وبخير كثير.

فقمت أنا وهو فلما قام عني نفذت له غطاءً وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلة فقمت وكنت أنا وهو في الروشن (الكوة) في خلوة فنزلت لأنام فسألت الله زيادة في كشف المنام في تلك الليلة أراه أنا.

فرأيت كأن مولانا الصادق (ع) قد جاءني بهدية عظيمة وهي عندي وكأنني ما أعرف قدرها فاستيقظت وحمدت الله وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل وهي ليلة ثامن عشر جمادى الآخر فأصعد الغلام فتح الإبريق إلى عندي فمددت يدي فلزمت عروته لأفرغ على كفي فأمسك ماسك فم الإبريق وأدراه عني ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة فقلت: لعل الماء نجس فأراد الله أن يصونني عنه فإن الله عز وجل علي عوائد كثيرة أحدها مثل هذا وأعرفها.

فناديت إلى فتح وقلت: من أين ملأت الإبريق؟ فقال من المصبة فقلت: هذا لعله نجس فاقلبه وطهره واملأه من الشط فمضى وقلبه وأنا أسمع صوت الإبريق وشفطه ملأه من الشط وجاء به فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفي فأمسك ماسكك فم الإبريق وأداره عني ومنعني منه. فعدت وصبرت ودعوت بدعوات وعاودت الإبريق وجرى مثل ذلك فعرمت أن هذا منع لي من صلاة الليل تلك الليلة وقلت في خاطري لعل الله يريد أن يجري علي حكماً ابتلاء غداً ولا يريد أن أدعو الليل في السلامة من ذلك، وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك.

فنمت وأنا جالس وإذا برجل يقول لي- يعنى عبد المحسن الذي جاء بالرسالة-: كان ينبغي أن تمشي بين يديه فاستيقظت ووقع في خاطري أنني قد قصرت في احترامه وإكرامه فتبت إلى الله جل جلاله واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك وشرعت في الطهارة فلم يمسك أبداً فم الإبريق وتركت على عادتي فتطهرت وصليت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل وفهمت أنني ما قمت بحق هذه الرسالة: فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن وتلقيته وأكرمته وأخذت له من خاصتي ستة دنانير ومن غير خاصتي خمسة عشر ديناراً مما كنت أحكم فيه كما لي وخلوت به في الروشن وعرضت ذلك عليه واعتذرت إليه فامتنع من قبول شيء أصلاً وقال: أن معي نحو مائة دينار وما أخذ شيئاً أعطه لمن هو فقير وامتنع غاية الامتناع.

فقلت: أن رسول مثله عليه الصلاة والسلام يعطي لأجل الإكرام لمن أرسله لا لأجل فقره وغناه فامتنع فقلت له مبارك اما الخمسة عشر فهي من غير خاصتي فلا أكرهك على قبولها وأما هذه الستة دنانير من خاصتي فلا بد أن تقبلها مني فكاد أن يؤيسني من قبولها فألزمته فأخذه وعاد تركها فألزمته فأخذها وتغديت أنا وهو ومشيت بين يديه كما أمرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.

ومن عجيب زيادة بيان هذا الحال: أني توجهت في ذلك الأسبوع يوم الاثنين من جمادى الآخر سنة إحدى وأربعين وستمائة إلى مشهد الحسين (ع) لزيارة أول رجب أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد ضاعف الله سعادته، فحضر عندي سحر ليلة الثالث أول رجب المبارك سنة إحدى وأربعين وستمائة المقرئ محمد بن سويد فيس بغداد وذكر ابتداءاً من نفسه أنه رأى ليلة السبت ثامن من عشر من جمادى الآخرة المتقدم ذكرها كأنني في داري وقد جاءني رسول إليك وقالوا هو من عند الصاحب.

قال محمد بن سويد: فظن بعض الجماعة أنه من استاد الدار قد جاء إليك برسالة.

قال محمد بن سويد: وأنا عرفت أنه من عند صاحب الزمان (ع) ، قال: فغسل محمد بن سويد وطهرهما وقام إلى رسول مولانا المهدي (ع) فوجده قد أحضر معه كتاباً من مولانا المهدي (ع) إلى عندي وعلى الكتاب المذكور ثلاثة ختوم.

قال المقرئ محمد بن سويد فتسلمت الكتاب من رسول مولانا المهدي (ع) بيدي المشطوفة قال: وسلمه إليك يعني عني.

قال: وكان أخي الصالح محمد بن محمد بن الأوي ضاعف الله سعادته، حاضراً فقال: ما هذا؟ فقلت: هو يقول لك قال علي بن موسى بن طاووس: فتعجبت من أن هذا محمد بن سويد قد رأى المنام في الليلة التي حضر عندي فيها الرسول المذكور وما كان عنده خبر من هذه الأمور والحمد لله.
Read more

الجمعة، 9 أغسطس 2013

الحلقة الواحد والثلاثون والاخيرة - الهدف النهائي: استئصال الظالم و صولة الحقّ

 ألا يا أهل العالم، أنا الإمام المنتظر، ألا وإنّ جدّي الحسين قُتل عطشاناً

ولكن على الرغم من كلّ ذلك لم تقرّ عيون الجيش، لأنّ منتهى درجة التشفّي بالانتقام وتبرّد قلب المظلوم لا يتمّ إلاّ بموت الظالم، وخروجه من عالم الوجود، كما أنّ تبرد قلب المظلوم في دار الدنيا لا يكون إلاّ بمحو الظالم من صفحة الوجود. إنّ الموت والفناء والخروج من الدار الآخرة أمر غير ممكن، إذ أنّ الحياة هناك ذاتيّة، وإنْ شويت ابدانهم وامتلأت ثقوباً، فقد قال سبحانه:
وإنَّ الَّدارَ الآخرةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ (1) و كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا » (2) .
اجتمعنا نحن السبعة رؤساء الأفواج، والسبعة رؤساء الملائكة في خيمتي، للتشاور فيما ينبغي أن نفعله لبلوغ الانتقام التامّ، لتهدأ القلوب من ثورتها وفورانها، وتبرد بهذه الحرب التي نحن عازمون عليها.
ثمّ إنّ قلب إمام العصر والزمان، الذي هو قلب عالم الإمكان، يفور ويغلي وهو ممتلئ بالحزن، فيكون على الشيعة، الذين هم الفراشات حول تلك الشمعة، وأغصان تلك الشجرة، أن يظلّوا في همّ وحزن أيضاً لأنّهم ـ كما قالوا عليهم السّلام:
« شيعتُنا خُلقوا من فاضل طينتنا، وعُجنوا بماء ولايتنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ».
قال البعض: « يحسن بنا أن ندخل بَرَهوت، ونقطّعهم بأسلحتنا إرْباً إرْباً، وإن لم يموتوا؛ فإنّ الضرب بأيدينا قد يطفئ سعير قلوبنا ».
قال رئيس الملائكة: « لا شكّ أن العذاب الذي يحيق بهم الآن أشدّ كثيراً من قيامكم بقتلهم. ثمّ إنكم غير مسموح لكم بدخول برهوت ».
وقال آخر: « إنّ دخولنا إلى برهوت يرفع عنهم العذاب، فكما أنّ المؤمن يخاف نار جهنم، فإنّ نار جهنّم أشدّ خوفاً من المؤمن. إذن فدخولنا برهوت يرفع عنهم العذاب، وهذا نقيض ما نقصد إليه ».
قلت: « إنّ سبب حزننا وفوران دمائنا هو الآلام التي يتحمّلهما إمام الزمان عليه السّلام، فما لم تنطفئ نيران قلب إمامنا فلن يهدأ لنا بال، ولن تبرد قلوبنا، لأنَّ شيعته يحزنون لحزنه. فعلينا أن نفكّر للعثور على طريقة تجعله يخرج من حالة الانتظار التي يعيش فيها، وهذه لا تكون إلاّ بالدعاء لله والالتماس منه كي يأذن له بالظهور، ولا سبيل غير ذلك. إنّ علينا أن نتوسّل بكلّ جوارحنا بمُغيث المساكين حتّى يحلّ مشكلتنا هذه ».

دعاء الفَرَج
استحسن الجميع هذا الرأي إلاّ الملائكة فقد لزموا الصمت، وفي هذه اللحظة دخل جمع من أفراد العسكر قائلين: إنّ نيران قلوبهم لا تنطفئ إلاّ باستعمال السيف والسنان. فطلبوا أن يُخبَر الجميع بالاستعداد للتوجّه إلى البيت المعمور، حيث نطلب من الله أن يعجّل ظهور وليّه حتّى يمكن علاج جميع أدوائنا. وهذا هو ما عُقد عليه عزم أهل الحلّ والعقد، فدعاء الفرج في آخر الزمان من أفضل الأدعية. وقمنا نحن أيضاً، والتحقنا بصفوف الجيش، ورفعنا أيديَنا الدعاء:
« اللهمّ عظم البلاء، وبرح الخفاء، وانكشف الغطاء، وضاقت الأرض ومنعت السماء، وإليك يا ربّ المشتكى، وعليك المعوَّل في الشدّة والرخاء. صلّ على محمّد وآل محمّد اُولي الأمر الذين فرضت علينا طاعتهم، فعرّفتنا بذلك منزلتهم، فرّج عنّا بحقّهم فرجاً عاجلاً كلمح البصر، أو هو اقرب من ذلك، يا محمّدُ يا عليّ، يا عليّ يا محمّد، انصراني فإنّكما ناصراي، واكفياني فإنّكما كافياي. يا مولاي يا صاحب الزمان، الغوث، الغوث، الغوث! أدركْني، أدركْني، أدركْني! العجل، العجل، العجل! (3).
ثمّ أضفت قائلاً:
« اللهمّ... فأخرِجْني من قبري مؤتزراً كفَني، شاهراً سيفي، مجرِّداً قناتي، ملبّياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي » (4).
تركنا الصفوف في حالة الدعاء، وذهبنا في بضعة نفر إلى دائرة الهاتف التي كانت في اللوح هناك، لكي نرى ونسمع الحوار في الملأ الأعلى، ونتعرف على رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى عليّ وأولاده عليهم السّلام. فرأينا النبيّ صلّى الله عليه وآله وعلياً وأهل بيته عليهم السّلام يقفون صفّاً رافعين أيديهم بدعاء الفرج، ومن ورائهم وقفت صفوف الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين يدعون معهم، فأدركنا أنّ اجتماعنا الاستشاري، واتحاد آلامنا، واتجاهنا إلى دعاء الفرج، إنّما كان بإملاء باطني من الملأ الأعلى، إذ إنّ حركة هذا الظلّ ناشئة من حركة تلك الباقة من الورد.
قلت: « لا شكّ أنّ ذلك قد اثّر في الدنيا أيضاً، لأنّنا نظرنا فرأينا الإمام صاحب الزمان قد اجتمع مع جمع من أصحابه على رأس جبل، رافعين أيديهم بالدعاء أيضاً. ورأينا في مختلف بلاد الإسلام ومدنها جموع المسلمين قد تجمّعت في مجموعات كبيرة وصغيرة في المساجد مشغولين بالدعاء وقراءة: أمّنْ يُجيبُ المُضطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء .
وفي الصحارى رأينا قطعان الحيوانات: من مفترسة ومجترّة وجارحة، قد عقدت الاجتماعات، وكلّ جمع يعرب بلسانه عمّا يعانيه من طول انتظار الفرج.
بعد رؤية هذه المناظر قوي أملنا بقرب بلوغنا المقصود. وطلبنا من عامل الهاتف أن يخبرنا فوراً إن جدّ خبر مفرح.

صولة الحقّ
عدنا إلى حيث صفوف أصحابنا المنتظمة للدعاء، فرأينا أنّهم في حال غريبة، فبعض في حال من البكاء وبشفاه يابسة، رافعين أيديهم بالدعاء، وقد وقفوا حيارى. وبعض قد شقّوا جيوبهم ووقعوا على الأرض. فقلنا لهم: انهضوا وافتحوا أعينكم، فالأمل بنيل المقصود قريب. ثمّ جاء من يطلبنا إلى الهاتف، فذهبنا ورفعنا السماعة، وإذا بالصوت يأتينا من الكعبة في دار الدنيا، عرفنا فيه صوت إمام الزمان الذي ينعش القلب وهو ينادي:
« ألا يا أهل العالم، أنا الإمام المنتظر، ألا وإنّ جدّي الحسين قُتل عطشاناً » (5).
عدت إلى المعسكر لأرى الذين يحبّون أن يكونوا في ركاب الإمام للانتقام من الأعداء، يمتشقون سيوفهم بأيديهم ويخرجون من القبور:
فقد جَاءَ الَحقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً (6).
وقد مضت جولة الباطل، وطلعت دولة الحقّ.

الحلقة الثلاثون - ريح برهوت ولعن أعداء أهل البيت

___________________
1 ـ العنكبوت / 64.
2 ـ النساء / 56.
3 ـ وهذا الدعاء يعرف بدعاء الفرج، وقد أورده المحدّث القمّي في الصفحة (531) من كتابه مفاتيح الجنان، ويذكر له آثاراً مهمة، ويقول: إنّه مجرّب في قضاء الحاجات.
وهناك روايات كثيرة ومعتبرة في بحار الأنوار، المجلد 12، وفي النجم الثاقب، للمرحوم النوري، وفي كتاب الغَيبة، للنعماني، تقول: إنّ على شيعة إمام العصر والزمان في الابتلاءات والمشكلات والمصائب المادية والمعنوية الدنيوية والأخروية أن يستغيثوا.
4 ـ هذه الجمل جانب من (دعاء العهد) الخاص بالإمام الحجّة كما أورده الشيخ عباس القمّي في الصفحة 539 من مفاتيح الجنان نقلاً عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: «مَن دعا إلى الله تعالى أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا، فإن مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره وأعطاه بكلّ كلمة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيّئة».
إنّ من الجدير بعشاق الإمام أن لا يغفلوا عن هذه الفيوضات، فيقرأوا كلّ صباح هذا الدعاء في ذكره. بل إنّ مجرد تذكر صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه يومياً وتجديد العهد معه ـ بصرف النظر عمّا في ذلك من ثواب كبير ـ يوجب النشاط الروحي والمزيد من التوفيقات المعنوية.
5 ـ بالرجوع إلى المظان من الكتب لم نعثر على هذه العبارت على أنّها ما ينطق به الإمام الحّجة عند ظهوره بصوت منعش. إلاّ أنّ هناك أُموراً وأحاديث أُخرى بهذا الخصوص، من ذلك كتاب المهدي، تأليف السيّد صدر الدين الصدر رضي الله عنه، وقد جاء فيه ما خلاصته:
جاء في كتاب عقد الدرر في الباب السابع من كتاب الفتن، عن نعيم بن حماد عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: « يظهر المهدي في مكّة عند انتشار الفساد، ويحمل معه سيف رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلمه ورداءه. وبعد أداء صلاة العشاء ينادي بأعلى صوته: أيّها الناس، اُذكّركم بوقوفكم أمام الله، بعد أن أتمّ الله الرؤوف عليكم حجّته بإرساله الأنبياء وإنزاله الكتب، وأمركم بألاّ تكونوا من المشركين، وأن تطيعوا الله ورسوله. عليكم إحياء ما أحياه القرآن، وإماتة ما أماته، وكونوا في التقوى من أعوان المهدي ووزرائه، ففناء الدنيا قريب، وقد نادى المنادي بنداء الوداع. إنّي أدعوكم إلى الله ورسوله، لتعملوا بما جاء في القرآن، وتتركوا الباطل، وتحيوا سنّة رسول الله ».
وقد ورد في الروايات أنّه: « يظهر المهدي ومعه 313 رجلاً من أصحابه بعدد أصحاب بدر، يقضون الليل في العبادة، وفي النهار هم أُسد الوغى، ويفتح الله لهم أرض الحجاز، فيطلق من السجون بني هاشم، ويرسل الجيوش إلى الأطراف لأخذ البيعة، ويقضي على أهل الجور والظلم، ويسلم له أهل المدن » إلى آخر الحديث.
إنّ موضوع قيام الإمام بالانتقام لا شكّ فيه، كما جاء في دعاء الندبة: « أين الطالب بدم المقتول بكربلاء ».
6 ـ الإسراء / 8. فلمّا كان الله سبحانه قد اقام أساس الخلْق على الحقّ والاعتدال، فإن أيّ أمر في العالم يكون على خلاف هذا المبدأ يزول ذاتياً ويتلاشى، لعدم انسجامه مع الطبيعة الأساسيّة في بنية الخلق القائمة على الاعتدال، وإن بقي فترة من الزمن، كالشوكة التي تدخل في لحم الإنسان، فهي لكونها ليست من طبيعة البدن قد تبقى في الجسم أياماً تسبب له الألم والعذاب، ولكنّ الجسم الإنساني يلفظها في النهاية ويطردها شرّ طردة. كذلك هي الأعمال القبيحة الباطلة، فهي قد تظهر في مجتمع فترة من الزمن، ولكنَّها لكونها لا تنسجم مع أُسس الخليقة القائمة على الاعتدال، تكون محكومة بالفناء والزهوق، كما تؤكّد الآية المذكورة.
ويُستنتج من هذه الآية الشريفة أنّ هدف الأنبياء والكتب السماوية هو حمل الناس على الانسجام مع الخلقة والفطرة، وأنّ جميع التعاليم الربانية تنطبق على مزاج الخلق المعتدل.
إنّ أعمال الناس سلوكهم قبل الإسلام لم تكن بالطبع تتلاءم وميزان الحقّ والعدالة، لذلك فهي لم تكن قابلة للاستمرار مطلقاً، فكان أن جاء رسول الله (جاء الحقّ) وقضى على أعمال الناس الباطلة (زهق الباطل). وفي غيبة إمام الزمان عليه السّلام.. عندما يشيع الفساد ويسود الباطل ويصل ذلك إلى أعلى مستواه، كما كانت الحال في الجاهلية، فيعمّ الأرض الظلم والفساد؛ عندئذ يلطف الله بعباده بظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، فينتصر الحقّ على الباطل، كما جاء في تفسير هذه الآية في روضة الكافي:
عن عاصم بن حميد وأبي حمزة أنّ الإمام الباقر عليه السّلام قال: إنّ هذه الآية نزلت في قائم آل محمّد، فالله سيمحو الباطل بظهوره.
وفي رواية تفسير اللاهيجي عن كتاب الخرائج والجرائح عن حكيمة أنّه: عندما ولد صاحب الأمر رأينا على عضده الأيمن « جاء الحقّ وزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً ».
Read more

الخميس، 8 أغسطس 2013

الحلقة الثلاثون - ريح برهوت ولعن أعداء أهل البيت

ريح برهوت ولعن أعداء أهل البيت

على سفح جبل الرحمة
وهكذا كنّا نسير بكلّ أُبّهة وجلال على رأس هذا الفوج من الملائكة، ونحن نهتف: لبّيكَ لبيك! حتّى وصلنا إلى سفح جبل شاهق اسمه جبل الرحمة، وكان فيه باب وسور: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (1).
كانت أفواج طلائعنا قد ضربت الخيام عند سفح الجبل، وجلست في انتظارنا. وعند وصولنا انطلقت هتافات لبيك، لبيك! من الجميع، فارتجّت أركان الجبل وجنباته. وكانت خيمتنا قد نصبت فدخلت فيها مع رئيس الملائكة ورؤساء أفواج الملائكة السابقين الاثني عشر، وسألنا: «لِمَ وقفتم عند سفح الجبل ولم تصعدوا ؟».

رجال على الأعراف
فقالوا: « ظهر لنا أشخاص منعونا من ارتقاء الجبل، إذ إنّ ذلك ممنوع إلاّ لنفر معدودين: وَعَلى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ . (2).
فالتفت إليّ رئيس الملائكة وقال: « صحيح أنّك اسكتّني بأدلّتك المقنعة، لأنّنا لسنا من أهل المنطق والاستدلال، ولكنّني لم اكتشف في تصرّفاتكم هذه رضى الله تعالى، ولا يُستبعد أن يكون توقيفكم هنا مقدّمة لنزول العذاب الذي قد يحيق بنا أيضاً ».
قال هذا وهو يرتعد خوفاً، الأمر الذي أوقع سائر الحاضرين في القلق والاضطراب، فخشيت إذا انكشف هذا للآخرين أن ينفرط عقد الجيش، فطلبت من رؤساء أفواج الملائكة أن يكتموا ما دار بيننا من حديث ولا يذيعوه في الخارج.
ثمّ التفت إليّ رئيس الملائكة، فابتسمت في وجهه، وقلت: « قم نتمشّى في أطراف المعسكر نتفقّد شؤونه، ونتعرف أحواله، ونستكشف سفح الجبل، فلعلّنا نطّلع على سبب تأخيرنا هنا، فتزول المخاوف، فلا تكون باعثاً على اضطراب الآخرين ».
فخرجنا نتمشّى حتّى وصلنا إلى خيمة كان صاحبها منهمكاً في إصلاح سلاحه ، وهو يدمدم بأبيات من الشعر تحكي عن طول انتظاره، وكذلك الأمر مع بعض الخيام الأُخرى، فاحسست بالانبساط ورحت أختلس النظر إلى رئيس الملائكة مزهوّاً، إلى أن وصلنا في تجوالنا إلى تلّ على بُعد مائة قدم من المعسكر، فنظرنا من فوق التلّ إلى جهة المشرق فرأينا سحابة سوداء تغطي الأُفق كلّه، وترسل البرق والرعد والشهب بأشكال مختلفة وحركات مشتّتة، بحيث غدا الأُفق شعلة من نار. وما إن وقع نظر رئيس الملائكة على ذلك حتّى قال: « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ».
فسألته: « ما الذي يحدث هناك ؟! ».

ريح برهوت ولعن أعداء أهل البيت
فقال: « تلك ريح برهوت، وتلك الشهب التي تراها بصورة رماح وسيوف وخناجر وأعمدة، تنهمر على أعداء آل محمد صلّى الله عليه وآله، وهي اللعنات التي يرسلها المؤمنون عليهم، أمّا أصل العذاب والانتقام الإلهي فعلى الأرض، حيث تستعر مثل كورة الحدّاد، وتموج بالحيوانات المفترسة النارية وأنهار النحاس المنصهر التي تجري فيها ».
كنا نرى تلك السهام الشهابية عندما تنفذ في أبدان الأعداء، تخرج منها لتصيب آخرين، وإذا ما أصابت الأرض ارتفعت مرّة أخرى، لتصيب عدداً آخر منهم، فإذا فرّ أحد من أمامها، تبعته وكأنّها تعرف هدفها، ولا بد أن تصيبه.
وكنا نرى أُولئك الأعداء يرتفعون دون اختيار في الهواء، ثم يرتطمون بالأرض، مثل حبّات الحرمل في الإناء الساخن، لم يكن يقرّ لهم قرار، وكنّا نسمع أصوات صراخهم وعوائهم كالكلاب. كان هذا المنظر قد أفرحني بحيث إنّي طلبت أن تقام خيمتي فوق هذا التلّ، وأن تُضرب الخيام الأُخرى حوله؛ لكي لا يفوتهم التمتّع بذاك المنظر الفريد المفرج. فهرع الجميع لرؤية تلك المشاهد. وهم يظهرون الابتهاج ويصفّقون ويهللون: فَرِحِينَ بِما آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (3).
ولما كانت تلك الشهب التي تصيب الأعداء هي نتيجة للعن المؤمنين، كما قال رئيس الملائكة، فقد طلبنا من الجيش أن يلعنوا أعداء أهل البيت، وبدأت أنا أقرأ بصوت مرتفع حتّى يسمعني الجميع:
« اللهمّ العن أوّل ظالم ظلم حقّ محمّد وآل محمّد صلّى الله عليه وآله، وآخِرَ تابع له على ذلك. اللهمّ العن العصابة التي جاهدت الحسين عليه السّلام، وشايعت وبايعت وتابعت على قتله، اللهم العنهم جميعاً ».
وقرأت أيضاً:
« اللهمّ خُصّ أوّلَ ظالم باللعن منّي. اللهمّ العَن يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمراً، وآل أبي سفيان، وآل زياد وآل مروان، إلى يوم القيامة ».
كان الجيش قد اصطفّ يتابعني في اللعن بأصوات مرتفعة، ولاحظنا أنّ عدد الشهب قد ازداد بالملايين على أثر لعناتنا، واظلمّت الدنيا هناك من الدخان والغبار. كانت الحالة من الشدّة بحيث إنّه إذا أصاب شهاب أحدهم كان يرتفع من الأرض إلى الفضاء بين الشهب، فكانت تصيبه من كلّ جهة: من الشرق ومن الغرب، ومن الشمال ومن الجنوب، وأحياناً من فوق ومن تحت، وهو يدور متقلباً في الهواء حتّى يسقط على الأرض مرّة أُخرى.
كان أفراد العسكر يستبدّ بهم الطرب، فيزدادون في اللعن والدعاء، حتّى جفت أفواههم وتلعثمت ألسنتهم، وهم يرون الظالمين قد شُويت أجسامهم، وغدت كالغرابيل من كثرة الثقوب.

الحلقة التاسعة والعشرون - محاججة مع رئيس الملائكة

__________________
1ـ الحديد / 13.
2 ـ الأعراف / 46. هؤلاء الرجال بحسب تفاسير الشيعة وروايات أهل البيت عليهم السّلام، هم الأئمّة المعصومون الذين يقفون على مرتفعات يوم الحشر، ويلتقطون شيعتهم، ويدخلونهم الجنّة.
3 ـ آل عمران / 107.
Read more

الحلقة التاسعة والعشرون - محاججة مع رئيس الملائكة

محاججة مع رئيس الملائكة

كنت أنا ورئيس الملائكة نتحرّك جنباً إلى جنب على رأس الجيش الكثير الجلبة والضجيج، ولاحظت أنّ حضرة الرئيس مقطّب الجبين عابس ومطأطئ الرأس وغارق في التفكير، ويهمّ أحياناً أن يقول شيئاً، ولكنّه يبتلعه ويلزم السكوت. وعلى الرغم من أنّي كنت أعرف ما يجول بخاطره، فقد سألته:«ماذا بك ؟».
قال: «إنّني خائف من سلوككم الثائر هذا، الذي لم يحدث مثله في هذا العالم الذي يسوده الأمان دائماً، وأخشى أن ينزل غضب الربّ عليكم فتصيبنا النار التي ستصيبكم».
فقلت: « ولماذا تصيبكم نارنا ؟ ».
قال: « لأنّنا لم نَنْهَكم عن أعمالكم القبيحة هذه ».
قلت: « إذا كانت أعمالنا قبيحة فلماذا لم تَنهونا عنها ؟ ».
قال: « لأنّنا أُمرنا أن نوصلكم إلى حدود برهوت ».
قلت: « ونحن أيضاً ذاهبون معكم، فما وجه القبح في أعمالنا ؟ ».
قال: « تجييشكم هذه الجيوش، وإثارتكم الفتنة ».
قلت: « هل أمركم الله أن تأخذونا بصورة أُخرى ؟ ».
قال: « لا، بل قال خذوهم ».
قلت: « الأخذ إذن مطلق، ولا يقتصر على صورة معينة، راجلين أو راكبين، مسلّحين أو غير مسلّحين... فمهما تكن هيئتنا، فعليكم أن تأخذونا بأمر من الله، وما في هذا من قبيح، لأنّ الله لا يأمر بالقبيح. وعليه فلو أنّكم نهيتمونا عن أمر الله لكنتم قد خالفتم ما أنزل الله، ولغضب الله عليكم، ولهذا فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على من يعرف المعروف والمنكر ويميّز بينهما، ولكنّك ما تزال لا تعرف الحسن والسيّئ ولا تميّز بينهما، فكيف كنت تستطيع أن تنهانا عن أمر وتأمرنا بأمر آخر ؟ ».
ورأيت أنّه نزل كثيراً عن عظمته السابقة وصغر، وقال: « الحمد لله على أنّي لم أفتح فمي بنهي ».
قلت: « إنّ غيرتي تحدوني إلى أن أحملك على التصاغر أكثر من هذا. إنّ قولك: بأنّ حادثة كهذه لم تحدث من قبل في هذا العالم، يعني أنّك تقيس المستقبل على الماضي، وأنّه يجب أن لا يحدث أيّ جديد. إنّ أوّل من قاس هو إبليس الذي قال: إنّ ما صُنع من نار يكون منيراً، وإن ما صنع من تراب يكون مظلماً لا نور فيه. وأنت تعلم أنّ قياس إبليس هذا كان باطلاً، ولتعنّته هذا طُرد من حضرة الله. وقياسك هذا باطل أيضاً لأنّ الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأنٍ (1).

إشكال خائف لرئيس الملائكة
فرأيت رئيس الملائكة قد صغر أكثر، وقال: « إنّ خوفي نابع من أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لعليّ صريحاً: إنّ الطيّب لم يزل غير متميّز عن الخبيث، ولا يكون الظهور إلاّ بعد تمايز الطيّب عن الخبيث وانفصالهما عن بعض، كما في قصّة نوح، ولكنّكم تسعون ـ بخلاف التقديرات الإلهية ـ أن تستعجلوا حدثاً يقدّر الله أن يتأخّر وقوعه. وبعبارة أُخرى، إنّ ما قُدّر له أن يحدث غداً أتريد أنت أن تجعله يحدث اليوم ؟! وهذا في الواقع ادّعاء الربوبيّة » (2).
فسالته: « هل يُقدَّر كلّ حدث في هذا العالم ضمن سلسلة أسبابه أم لا ؟ ».
قال: « لا شكّ أنّها تقدّر ضمن سلسلة عِللها، لأنّ الطفرة في هذه الأحوال مستحيلة ».
قلت: « أحسنت، إنّ سلوكنا هذا ودعاءنا وإلحاحنا في الطلب، مهما كان عجيباً في نظرك، قد يكون من جملة الأسباب والمقدّرات الإلهية، لأنّ خطرات النفس وميولها كثيراً ما لا تكون مسيطَراً عليها (3).
وعليه فإنّ الإلحاح في الدعاء والطلب من الله من جملة المقدّمات التي تقرّب ظهور البعيد، وتبعد ظهور القريب، وترفع الموانع، وتوجد شروط الحدوث، وإنّ الإلحاح في الدعاء من المستحبّات، إذ إنّه إذا لم يكن له تأثير فإنّ له في الأقلّ ثوابه ».
فخفّ عبوس رئيس الملائكة، وانتقل من الانغلاق إلى الانفتاح، ولان طبعه، وقال: «لكنّ النبوءات والإلهامات والخطرات الرحمانية لعبيده، تأتي عن طريق الملائكة ، ولا يكون غير ذلك، لأنّ الطفرة مستحيلة (4)، ونحن لا علم لنا بهذه الخطرات والحوادث».
قلت: « لقد نزلت الآيات الأخيرة من سورة البقرة بغير وساطة جبرائيلكم، أليس لكم رؤساء ؟ ».
قال: « بلى كثيرون، ولا نعلم درجاتهم ».
قلت: « فلعلّ هذه الخطرات والحوادث قد وقعت عن طريق رؤسائكم. ثمّ إنّنا من محبّي أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإلاّ لما كنّا في هذا الجاه والمقام. وإنّ من لوازم المحبّة إعانة العاشق معشوقه للوصول بكلّ ما يمكن، ولو بلسان الدعاء، فما وجه اعتراضكم ؟ تقولون: لماذا تحبّونهم، أو لماذا تعملون وفق لوازم المحبّة ؟ وماذا إذا لم يحر جواباً » (5).
قلت: « إنّ ما يوجب تعاليكم هو تجرّدكم. ولو أنّنا ظللنا على تجرّدنا الأوّل أيضاً، ولم نتعلّق بالتراب، لكنّا مثلكم، بل لعلّنا كنّا ندّعي الإلوهية، كما يقول الإمام الصادق عليه السّلام. ولكنّكم تؤيّدون حتماً أن ليس كلّ متجرّد أعلم من المادّي غير المتجرّد وأرفع منه » (6).

الحلقة الثامنة والعشرون - الانتقام في برهوت وحشد القوى لخوض الجولة الحاسمة

_________________
1ـ الرحمن / 29. أي إنّ ضجيجنا هذا الذي كان من أجل تسكين رغبة التشفّي في قلوبنا لا يجوز لك أن تقيسه بإثاره الفتنة والشغب، مثل إبليس الذي قاس نفسه بآدم عليه السّلام وأبى أن يسجد له لاعتباره النار خيراً من التراب.
2ـ أي إنّ سبب اعتراضنا نحن الملائكة هو أنّ الانتقام أشبه بقضية صبر الإمام عليّ عليه السّلام على غاصبي خلافته، وصبر الله الذي استغرق بضع مئات من السنين قبل أن يُغرق قوم نوح، والسبب في كلا الحالين هو الانتظار حتّى يخرج من صلب هؤلاء الكفّار ذريّة طيّبة صالحة. الواقع أنّ الله قد قرّر لكلّ حدث موعداً، ولربما لم يحن بعد موعد الانتقام من المخالفين.
3ـ بما أنّ الله حاكم على كلّ ظروف الأحداث وعللها ومقدّماتها، وإنّ إرادته ومشيئته غالبة، فهو قادر على إلغاء علل الأحداث وظروفها، وإحداث تلك الحوادث بدون قيد ولا شرط، وما أدعيتُنا هذه أو الصدقات التي نتصدّق بها بأمر الله إلاّ دليل على أن الله قادر، بأدعيتنا وصدقاتنا، على الحيلولة دون وقوع ما كان مقدّراً، أو أن يستعجل حدوث ما لم يحن وقته بعد، أن يزيد أو ينقص في الأعمار، وفي مثل هذه الأُمور يساعد الله على تحقيقها، كأن يُوقع في قلب الإنسان أن يدعوه ليستجيب له.
4ـ أي إنّ تحقيق الاُمور مستحيل بغير سبب أو علّة.
5ـ القصد هو أنّه لا ضرورة لوجود وساطة دائماً بين الله والأنبياء وعبيده المقرّبين، بل قد يلقي الله ما يريد في القلوب. ثمّ إنّ الحبّ لا يعرف الظروف والعلل والمقامات.
6ـ مفاد حديث الإمام الصادق عليه السّلام في جواب الذي سأل: لماذا سجن الله تعالى الأرواح الحرّة اللطيفة المجرّدة من عالم الملكوت الأعلى في الأجساد القذرة في الدنيا، أنّه قال: « إنّ ذلك التجرّد وتلك الحرية هما اللذان أدّيا إلى غرورها إلى الحدّ الذي كادت فيه أن تدّعي الاُلوهية. فلكي يثبت الله سبحانه وتعالى ذلّتها وفقرها ومخلوقيتها وجهلها، هبط بها وأذلّها وجعلها أسيرة هذه الأبدان الترابية. ثمّ أمرها بعد إحساسها بالفقر والذلّة أن تستغيث به وتطلب منه أن يجعلها غنية وكاملة وعالمة، وأن تقوم بالتسبيح لله وهي فقيرة وجاهلة.
Read more

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

الحلقة الثامنة والعشرون - الانتقام في برهوت وحشد القوى لخوض الجولة الحاسمة

الانتقام في برهوت وحشد القوى لخوض الجولة الحاسمة

وعلى حين غرّة جاء جواب الله تعالى أن يكون الانتقام من الأعداء في برهوت، وهذا التصوّر معلوم عند وليّ العصر الحّجة بن الحسن عجّل الله تعالى فرجه الذي لا يهمّه كثيراً تأخير الانتقام الدنيوي. أمّا الأُمور الأُخرى المتأخّرة فرضاه منوط برضانا: وَما تَشَاؤونَ إلاَّ أنْ يَشَاءَ اللهُ (1).
أمّا هذا الجمع الضعيف الإدراك والقليل الصبر الذي راح يعقد المجالس ويقيم حلقات الذكر، فإنّه ـ وإن يكن له بعض الحقّ في استثارة بحر رحمتي وغيرتي ـ فإنّي لابدّ أن أجبر خاطره، لأنّه في ضيافتي.
لذلك فقد أرسلت فوجاً من الملائكة إلى حدود برهوت؛ لكي يروا العذاب الأليم الذي يحيق بالأعداء، حتّى تهدأ النفوس.
بعد تلك الأقوال، حدث بينهم جدل وقيل وقال، بسبب اختلاف مشاربهم وأذواقهم ومداركهم. قال أحدهم: « إنّنا لا نذهب إلى حدود برهوت، فنحن نعلم أنّهم يتعذّبون على وجه العموم، ومع ذلك فقد أعطانا الله الحقّ في أن نقتصّ لأنفسنا بأيدينا ».
وقال آخر: «بل يجب أن نذهب إلى حدود بَرَهوت لنتفرج ونشفي غليل قلوبنا، فإذا لم يحصل ذلك فليس لنا أن نلحّ أكثر من هذا، وإلاّ فقد ينقلب الأمر علينا، كما حصل في الدنيا بسبب ضعف الشيعة، فتأخّر الظهور».
وكان الثالث يقول: « كلاّ، علينا بعد رؤية برهوت أن نتابع مطاليبنا، وليحدث ما يحدث، فقد نفد صبرنا ».
كان القال والقيل والهرج والمرج من الشدّة بحيث كان الكلام مختلطاً وغير مفهوم، ولم يكن أحد يستمع إلى نداءاتنا بالسكوت والهدوء.
وأخيراً عاد فوج الملائكة بكلّ عظمة وجلال فأعشى نوره أبصارنا، ووقف الملائكة يتفرجون ونحن بملابسنا الرثّة وشعورنا الشعث المغبرة وهيئاتنا الذليلة، فراحوا ينظرون إلينا نظرات الاحتقار، وعلى الأخصّ إليّ أنا الذي كنت السبب في كلّ ذلك، نظرات أشبه بنظرتهم إلينا عند أوّل خلقنا، إلاّ أنّ ثورة الحاضرين هدأت بمجيء الملائكة.
في هذا الموقف، رأيت من المناسب أن أخطب في هذا المجمع الحاشد، فارتقيت منبراً كان هناك وشرعت في الكلام:

حشد القوى لخوض الجولة الحاسمة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو عالمُ الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر، ربّ العالمين، مجيب دعوة المضطرين، كاشف كرب المكروبين، راحم المساكين، أمان الخائفين، غِياث المستغيثين، واضع المستكبرين. والسلام والصلاة على أوّل الوِرْد، وظِلّ الواحد الأحد، فاتحة كتاب الموجود، بسملة نور الوجود، البيت المعمور، والكتاب المسطور، وعلى آله الغُرّ الميامين، وسلالة النبيّين، وصفوة المرسلين، وخيَرة ربّ العالمين، لا سيّما ابن عمّه وصهره ووزيره وخليفته، صاحب العجائب، ومُظهر الغرائب، ومفرّق الكتائب، والليث الغالب، عليّ بن أبي طالب.
وبعد: فقد قال عزّ مِن قائل، وجلَّ مِن متكلّم:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنْجَعلَهُمْ أئمّةً وَنجْعَلَهُم الوَارِثينَ (2).
يا إخوان الصفا، وفُرسان الهَيجا، ومُحبّي الأئمّة وهداة الأمة. إنّ أهل بيت نبيّنا وإن لم يكونوا ضعفاء، إلاّ أنّهم استُضعِفوا وفي دنيا الجهل ظُلموا على أيدي الجهّال الظلمة، فتوالَت عليهم المظالم والمحن، وتتابعت منهم صرخات الاستغاثة: هل من ناصر ينصرنا ؟! وقد وصل نداؤهم إلينا الآن، فعلينا أن نلبّي هذا النداء، وأن لا نبخل بشيء نقدر عليه.
إنّ هذه الدعوة التي وصلت إلينا لا نتطلّع فيها إلى دنيا ولا إلى آخرة، ففي الدنيا بقينا ننتظر ونأمل حتّى أخذنا أملنا في اليوم الموعود معنا إلى القبر. واليوم لا هدف لنا غير ذاك الهدف، ولا نسلك غير ذاك السلوك. إنّ قصار النظر الذين يريدون أن لا نلحّ ولا نلحف لئلاّ تنقلب الآية، يحسبون أنّ طلبنا وإلحاحنا موجّه إلى فرد مخلوق فقير الإمكانية، لا إلى ربّ كريم.
على أُولئك أن يعرفوا أنّ الصلحاء لا يُقرَنون بالطلحاء، فإنّه أرحم الراحمين، ولا يبرّهم بإلحاح الملحين.
كذلك مقولة أُولئك الذين يقولون: إنّنا يجب أن لا نذهب للتفرّج على ما يعانونه من عذاب، لأن التفرّج لا يشفي غليلاً، إنّ في مقولتهم تمرّداً على البارئ تعالى ولجاجة معه عزّ اسمه. فيجب أن نذهب وأن نكون على استعداد حربي كافٍ، حتّى إذا ما سُمح لنا بالحرب، نكون قد أعددنا العدّة لها، إذ إنّنا ننوي أن نقيم هناك ولا نكفّ عن طلب المقصود إلى أن نعود في أيدينا شاهد القصد وإن طال ذلك آلاف السنين. فمن يجد في نفسه هذا العزم الثابت والإرادة الحديدية والهمّة العالية فليتهيّأ للحركة، وإلاَّ فعليه أن يظلّ هنا، لأنّ مجيئه سيضرّنا ولا ينفعنا.
فانبرى اثنا عشر ألف بطل قائلين: إنّهم حاضرون جميعاً، ولن يعودوا حتّى بلوغ الهدف. فنزلت عن المنبر، وانفتح الباب الصغير في البوابة الكبيرة، وخرج ألف فارس مدجج بالسلاح، وأُعطي زعيمهم راية، وقيل لهم: عليكم عند كلّ مرتفع ومنخفض أن ترفعوا أصواتكم بنداء لبّيك وسعديك، وكأنّكم تسمعون نداء (هل من ناصر) الذي صدر عن الإمامين الغريبين الوحيدين، لكي تبقى الدماء في فورانها.
وطلبتُ من رئيس الملائكة أن يرسل مائة ملك لمرافقة هذا الفوج، فلم يجد بدّاً من الموافقة على ذلك.
وهكذا راحت الأفواج تترى يصاحب كلاًّ منها مائةٌ من الملائكة، حتّى اكتملنا ستّة أفواج فتحرّكنا، على أن يلحق بنا فوج سابع مع باقي الملائكة. وحملت بيدي علماً كتب عليه: ( نصرٌ مِنَ اللهِ وَفتْحٌ قَرِيبٌ ) وقد شهرنا سيوفنا بأيدينا، ونحن ننادي على كلّ مرتفع ومنخفض بأعلى أصواتنا: لبيك! فتختلط بصهيل الخيل ووقع أرجل الفرسان، فكانت جنبات الوادي وسفوح الجبال تهتزّ من ذلك.

الحلقة السابعة والعشرون - تعالوا لنضرع إلى الله المفرّج

____________________
1ـ الانسان / 30، والتكوير / 29.
2ـ القصص / 5.
Read more

الاثنين، 5 أغسطس 2013

الحلقة السابعة والعشرون - تعالوا لنضرع إلى الله المفرّج

تعالوا لنضرع إلى الله المفرّج

قلت: « ألم تسمعوا أنّه يهيم على وجهه في البراري والصحارى، دائم البكاء والنواح والألم والعذاب، لا لسنة واحدة ولا لعشر من السنين، بل لأكثر من ألف سنة ؟ ».
قالوا: « بلى، ولكن لا نستطيع أن نفعل شيئاً ».
قلت: « ألا تستطيعون أن تهجروا هذا العيش والتمتّع والسرور ؟ الموت لعاشق لا يتأسّى بحبيبه! أيكون حبيبكم في ذلك العذاب وتحت ضغط ذاك الانتظار الأليم، وتتكئون أنتم هنا على الوسائد وتنعمون بالرفاه والأفراح والمسرّات، ثمّ تدّعون أنّكم من عشّاقه وتراب أعتابه! أحسن المقال ما صدقته الفعال! ».
فانقلب حال تلك الآلاف المحتشدة، وانصرفوا. ثمّ رأيت الخيام قد قُلعت والأثاث قد تبعثر، وخرج الناس في ملابس قديمة، حاسري الرؤوس، حفاة الأقدام، متّجهين نحوي.
قلت: « ما أعظم غيرتكم! فلنتوّجه نحو البيت المعمور وندعو: أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوْءَ (1) بصوت عال يرفع حرارة الأبدان والنفوس، فالمقصود بالمضطرّ هو نفسه صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه ».
وانتشر الخبر شيئاً فشيئاً على لسان الهادي وحبيب بن مظاهر في وادي السلام، وظهرت بوادر الهياج والثورة، وأخذ الناس يُلقون كلمات حماسية حول غربة إمام الزمان وقلّة أنصاره وشدّة اضطراره وطول انتظاره، وبرزت فيهم مشاعر حبّ الانتقام والأخذ بالثأر. وفي وادي السلام نفسه تجمّعت الجماعات وصعد الخطباء المنابر يلقون الخطب البليغة بهذا الشأن.
وعلى أثر انتقال الأخبار بوساطة الوصائف التي ذهبت من هنا عن انفعالات الأهالي وانقلاب أحوالها، والتي كانت في نظر المبادئ العالية والأرواح المكرمة مشهودة كالاستعراض السينمائي. جاءتنا الأخبار أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب والزهراء أُمّ الأئمّة مع عشرة من أولادها المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، قد اجتمعوا وعرضوا شفاعتهم، إلاّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله اعتذر عن ذلك قائلاً: إنّ التمييز بين الخبيث والطيب والكافر والمؤمن ما يزال صعباً:
... لَوْ تَزيّلُوا لَعَذَّبْنا الَّذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً ألِيمَاً (2)، هذه الآية هي نفسها سبب الانتظار.
فترتفع الصوات بالدعاء:
ففرّج فرجاً عاجلاً كلمح البصر، أو هو أقرب من ذلك، يا محمد يا عليّ، يا عليّ يا محمّد، انصراني فإنّكما ناصراي، واكفياني فإنّكما كافياي ». لقد كررنا ذلك وكررناه حتّى حرّكنا هذين القائدين، وكانت الزهراء عليها السّلام تنفخ في نار ذلك، كذلك كانت المقامات العليا ترفع أيديها بالدعاء:
« اللهمّ عجّل فرجنا بظهور قائمنا، وانتقم من أعدائنا بنصرة قائمنا، وأظهر فيك الخالص حتّى يعبدوك في البلاد ولا يشركوا بك شيئاً ».

الوعد بالفرج
كان لدينا لوح يظهر عليه كل ما يُقال في الملأ الأعلى، فكنّا نطّلع على ما يجري هناك. وجاء النداء من الله تعالى: « يا محمّد، قد أجبت دعوتك، وسأفي بذاك من قريب ».
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « لقد كنّا راضين برضاك. إلاّ أن أحد عبيدك قد ورد ضيفاً على مائدتك، ولكنّه لا يمدّ يده إلى طعام مثل سائر ضيوفك ما لم تقض لهم حاجتهم، وما حاجتهم سوى ظهور المهديّ المنتظر. يقولون: إنّ محبوبنا صاحب الزمان يحيا في هموم آلام لطول الانتظار وكثرة المصائب، فكيف يهنأ لنا طعام وشراب، ونحن نعلم أنّه لا يكفّ عن البكاء والنواح ؟ كيف يجوز لنا أن نلهو في ضحك وسرور ؟ الموت أخلق بمحبّ لا يتأسّى بحبيبه! لقد كان اعتقاد هؤلاء في الدنيا، أنّهم إذا أرادوا قضاء حاجة كبيرة من الكرماء، أن يجلسوا على مائدة ذلك الكريم ولا يمدّوا أيديهم إلى الطعام حتّى يجاب طلبهم بقضاء حاجتهم مهما صعب ذلك على المضيف، فكيف بك وأنت أكرم الأكرمين، وإنّك على كلّ شيء قدير، وموضع حاجات الطالبين، وغياث المضطرين، لا رادّ لحكمك، ولا مانع من أمرك! ».
كنا مثل الإبل الصوادي التي تتزاحم على مورد الماء، نحوم حول اللوح لنرى ما يستجدّ من حدث، فلاحظنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله يميل إلى ما نميل إليه، وأنّه يمسك بوسط الحبل، فقويَ رجاؤنا بأنّنا سرعان ما نجد الشاهد المقصود بين أحضاننا، فبقينا حول اللوح في أمواج متلاطمة وتزاحم وجذب ودفع بأعصاب متوتّرة ووجوه محمرّة ننتظر جواب الله سبحانه وتعالى لنبيّه، وكنّا واثقين من أنّ الجواب سيكون بالإيجاب، لأنّ اتجاه رغبة النبيّ صلّى الله عليه وآله كان معلوماً عند الله طبعاً، كما أنّ دعاء النبيّ كان لابدّ أن يثير قدرة الله وكرمه، وما كان يمكن أن يكون الجواب سوى قضاء الحاجة. ولكن الجواب تأخّر قليلاً، وكأن هناك تردّداً في الأمر كتردّده في قبض روح عبده المؤمن (3)، فإذا أجاب بـ « لا » فهو يكره مساءته، وإذا أجاب بـ « نعم » فقد لا تقتضي سلسلة التقادير ذلك بهذه السرعة.

الحلقة السادسة والعشرون - حبيب بن مظاهر على الهاتف

___________________
1ـ النمل / 62.
2ـ الفتح / 25. يروي ابن بابويه في كتاب (كمال الدين) في تفسير هذه الآية: أنّ إبراهيم الكرخي سأل الإمام الصادق عليه السّلام : لماذا لم يَقتل الإمام عليّ عليه السّلام ـ وهو القوي الشجاع ـ جميعَ ظالميه وغاصبيه لينتزع منهم حقوقه ؟
فأجابه الإمام عليه السّلام: « بسبب مفاد هذه الآية » أي من أجل المؤمنين الذين كانوا سيُولدون من أصلاب أُولئك الكفار، فهو لم يقتلهم لكي تولد ذرياتهم ويتميزون. وإن قائمنا أيضاً لا يظهر حتّى يولد أبناء صالحون ومؤمنون من أصلاب الكفّار والأشرار. فبعد ظهور الإمام لا يبقى غير الدين الحقّ والكفّار: إمّا أن يسلموا، وإمّا أن يُقتَلوا حتّى يتوحّد صلاح الدنيا.
3ـ بديهي أنّ تردّد الله في قبض روح المؤمن ليس مثل تردّد عبيده عندما يقولون: كلاّ، نعم، لا ندري. بل هو كناية عن محبّة الله وشفقته تجاه عبيده المؤمنين الصالحين.
Read more

الحلقة السادسة والعشرون - حبيب بن مظاهر الاسدي على الهاتف

حبيب بن مظاهر على الهاتف

وفيما أنا في هذا، وإذا بشخص يركض نحوي قائلاً: « حبيب بن مظاهر يطلبك على الهاتف ».
قلت: « أين هو ؟ ».
قال: « في المدينة ».
قلت: « لا شكّ أنّ الهادي قد استنجد به ليحملني على الذهاب إلى المدينة ».
فأتيت إلى الهاتف، وبعد السلام والسؤال عن الأحوال، بدا لي أنّه كان قد سمع دعواتي وتوسّلاتي، إذ قال: « لماذا أنت حزين منكسر القلب كثير التفكير ؟ تعالَ واهنأ واشكر الله على أنك نلت ما تشاء ».
فقلت: « إنّ الجنان كالسجن في عيني أو كنيران مستعرة. وبغير أن أنال مقصودي فلا قيمة عندي لشيء ».
فقال: « تعال نجتمع مثل ذوي القلوب الحزينة، ونتشاكى ونزن همومنا، فمن كان قلبه أشدّ حزناً كان أثقل وزناً ».
فقلت: « إنّ همومي لا نهاية لها، والله هو العالم بعذابي. فيا حبيب، لا تحمل همّاً بسببي.
أمّا هو فإنّه الكتاب الإلهي الناطق. وقد ورد عن الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه أنّه قال، بما أنّي لم أكن في هذا العالم عند استنصار ذلك المعشوق واستغاثته لكي أُعينه وأضحي بنفسي في سبيله ـ كما هو منتهى آمال العاشقين ـ فإنّني في عذاب وألم دائمين.
« لأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً » (1).
ومن الثابت في الحبّ أنّ العشاق الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل المعشوق وبحضوره، يكونون قد بلغوا أقصى ما يتمنّون، ولا ينتابهم بعد ذلك أسف أو حسرة أو غصّة. وهكذا أنت يا حبيب!
أمّا الذين سرورهم الإمام صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه، ولكنّهم خافوا أن يعرضوا خدماتهم وعونهم، أو أن ينقذوا المعشوق من براثن الظالم، أو أن يضحّوا بأنفسهم، فهؤلاء المساكين يظلّون دائماً محترقين في نار الحسرة الملتهبة في أعماقهم، ولن يهنأوا بشربة ماء أبداً، وكلّ طعامهم وشرابهم يتحوّل إلى همّ وحسرة. ومن هذا القبيل نحن.

شتّان فيما بينك وبيني
فكيف يمكن أن أكون عديلك في كفّة الميزان، يا حبيب بن مظاهر ؟! وأنّى لي أن أعرف أن حالَينا في المسرّة متشابهان ؟
إنّ ما فعلتموه أنتم في كربلاء، حتّى إنّكم من شدّة لهفتكم وشوقكم قيل عنكم:
لبسوا القلوبَ على الدروع وإنّما
يتهافتون على ذَهـاب الأنفـسِ

هو الذي أهنأ عيشَكم، وأعذب شرابكم. لكن أنّى لنا أن نكون مثلكم وقد قُبر معنا تحسرنا على ذلك ؟!
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أْموَاتَاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (2).
وهذا يشملك أنت ـ يا حبيب ـ ولا يشملني. إنّك تحيا حياة جديدة، وأنا من الأموات. لقد كنت أنت من السعداء ـ يا حبيب ـ وأنا من التعساء.
ألم تصلك أخبار عذاب الإمام الثاني عشر وآلامه في زوايا الدنيا وخرائبها والليالي الشاقة التي تمضي عليه ؟ فلو كنت أنت أيضاً متّ حتف أنفك مثلنا، ولم تبلغ أعلى المراتب التي بلغتها، لبكيتَ عليه دماً بدل الدموع، فما يعرف الحزن إلاّ الحزين ».
ولما كان الهاتف من النوع المتلفز، فقد رأيت حبيباً قد تغيّرت حاله وطأطأ رأسه وانهمرت دموعه، ثمّ ترك التلفون وانصرف، فوضعت السماعة في مكانها وذهبت.
ولكنّ الناس الساكنين هناك، والذين حسبوني مجنوناً، وكانوا ينظرون إليّ متعجّبين، عندما سمعوا مكالمتي مع حبيب تيقّظوا ووعوا الأمر، فتحلّقوا حولي، وقالوا: « يظهر لنا الآن أنّك لست مجنوناً، فماذا بك ؟ ».
قلت: «لا شكّ أنّكم من محبّي آل بيت الرسول عليهم السّلام، وإلاّ لما كان لكم مقام هنا. ولا شكّ أنّكم كنتم في الدنيا تعرفون الإمام الثاني عشر، صاحب الزمان، وقرّة عيون النبيّ وأهل بيته والمؤمنين جميعاً».
قالوا: « نحن من عشاقه وتراب أعتابه ».

الحلقة الخامسة والعشرون - لقاء مع ابنتي في العالم الآخر و سرّ العشق

_________________
1ـ يُروى أن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه في زيارته لجدّه الحسين عليه السّلام يخاطبه بهذا القول.
2ـ آل عمران / 169.
Read more