في رواية عن الصادق عليه السلام ، قال لأبي حنيفة : ـ لمّا دخل عليه ـ من أنت ؟
قال : أبو حنيفة .
قال عليه السلام : مفتي أهل العراق ؟
قال : نعم .
قال : بما تفتيهم ؟
قال : بكتاب اللّه .
قال عليه السلام : وانّك لعالم بكتاب اللّه ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ؟
قال : نعم .
قال عليه السلام : فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ : «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ»(1) أيُّ موضع هو ؟
قال أبو حنيفة : هو ما بين مكة والمدينة .
فالتفت أبو عبداللّه عليه السلام إلى جلسائه وقال : نشدتكم باللّه هل تسيرون مكّة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرق ؟
فقالوا : اللّهمّ نعم .
فقال أبو عبداللّه عليه السلام : ويحك ياأبا حنيفة إنّ اللّه لا يقول إلاّ حقا .
أخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ : «وَمَن دخَلَه كَانَ آمِنا»(2) أي موضع هو ؟
قال : ذلك بيت اللّه الحرام ،
فالتفت أبو عبداللّه عليه السلام إلى جلسائه وقال : نشدتكم باللّه هل تعلمون أنَّ عبداللّه بن زبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل ؟ قالوا : اللهم نعم .
فقال أبو عبداللّه عليه السلام : ويحك ياأبا حنيفة إنّ اللّه لا يقول إلاّ حقا .
فقال أبو حنيفة : ليس لي علم بكتاب اللّه إنّما أنا صاحب قياس .
فقال أبو عبداللّه عليه السلام : فانظر في قياسك إن كنت مقيسا أيُّما أعظم عند اللّه القتل أو الزنا ؟
قال : بل القتل .
قال : فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلاّ بأربعة ؟
ثم قال له : الصلاة أفضل أم الصيام ؟
قال : بل الصلاة أفضل .
قال عليه السلام : فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب اللّه تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة .
ثمّ قال له : البول أقذر أم المنيُّ ؟
قال : البول أقذر ،
قال عليه السلام : يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المنيّ ، وقد أوجب اللّه تعالى الغسل من المني دون البول.
قال : إنّما أنا صاحب رأي .
قال عليه السلام : فما ترى في رجل كان له عبدٌ فتزوَّج وزوّج عبدَه في ليلة واحدة ، فدخلا بإمرأتيهما في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد فولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيّهما في رأيك المالك وأيّهما المملوك ؟ وأيّهما الوارث وأيّهما الموروث ؟
قال : إنّما أنا صاحب حدود .
قال : فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح ، وأقطع قطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ ؟
قال : إنّما أنا رجلٌ عالم بمباعث الأنبياء .
قال : فأخبرني عن قول اللّه تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : «لَعَلَّه يَتَذَكّر أوْ يَخْشى»(3) ولعلّ منك شكّ ؟
قال : نعم .
قال : فكذلك من اللّه شكّ إذ
قال : لعلّه ؟
قال أبو حنيفة : لا علم لي.
قال عليه السلام : تزعم أنّك تفتي بكتاب اللّه ولست ممّن ورثه ، وتزعم أنّك صاحب قياس وأوَّل من قاس إبليس ولم يبن دين الاسلام على القياس ، وتزعم أنّك صاحب رأي وكان الرأي من رسول اللّه صلى الله عليه وأله صوابا ومن دونه خطأً لأنَّ اللّه تعالى قال : أُحكم بينهم بما أراك اللّه ، ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنّك صاحب حدود ومن اُنزلت عليه أولى بعلمها منك ، وتزعم أنّك عالم بمباعث الأنبياء ولَخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك ، لو لا أن يقال دخل على ابن رسول اللّه فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء فقس إن كنت مقيسا .
قال : لا تكلّمت بالرأي والقياس في دين اللّه بعد هذا المجلس .
قال : كلاّ إنَّ حبَّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك.
-------------------
1 ـ سبأ : 18 .
2 ـ آل عمران : 97 .
3 ـ طه : 44 .