Ads 468x60px

الخميس، 18 يوليو 2013

الحلقة التاسعة - زيارة غير منتظرة و إعراض الأهل والأحبّة

تذكرة الجنة - جواز الجنة - وﻻية علي جنه

ورأيت الهادي مشغولاً بتزيين الحجرة، وترتيب مائدة وكراسي من ذهب وفضة، وقد تدلّى من السقف قنديل يسطع ضوؤه كالشمس.
فسألته: « ماذا حدث حتّى أراك منهمكاً هكذا في تزيين هذه الحجرة مع أنّنا مسافران عنها ؟ ».
قال: « سمعت أنّ الأئمّة وأولادهم الذين كنت قد زُرتَ قبورهم، والعلماء الذين ذكرتَ أسماءهم في صلواتك الليلية أو قرأت الفاتحة على قبورهم، قد سمعوا بقصدك السفر إلى الآخرة، فعزموا على زيارتك لأداء حقّك ».
فقلت: « ما أسعدني بهذا التوفيق ! » وزال عنّي ما قد ران عليّ من حزن وهمّ بسبب زيارتي لأهل بيتي، وانتابني فرح شديد لهذا الخبر السارَ (1).
قلت للهادي: « إنّ هذه الحجرة صغيرة ».
فقال: « إنّها صغيرة عليك، ولكنّها سوف تتّسع بقدومهم ».
وفجأة حضروا بوجوه نيّرة وبكلّ عظمة وجلال. وجلس كلّ في مكانه بحسب منزلته، وكان المقدم عليهم جميعاً أبا الفضل العبّاس عليه السّلام وعليّاً الأكبر عليه السّلام فجلسا على منصّة كبيرة، ولكنّهما كانا يلبسان لأمة الحرب، فعجبتُ من ارتدائهما لأمة الحرب في عالم ليس فيه تزاحم ولا تعاند مطلقاً.
كنت أنا والهادي وبعض الحاضرين واقفين، وقد بهرني جمالهما وجلالهما، ولم تعد عيني تطيق التحول عنهما.
التفتَ أبو الفضل عليه السّلام إلى الهادي وسأله إن كان قد تسلّم تذكرة العبور من أبيه، فأجاب بالإيجاب؛ ثمّ تلا:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إنْ اسْتَطَعْتُم أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطَارِ السَّماواتِ والأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ (2).
ثمّ التفت إليّ وقال: « اُبشّرك بالفلاح، فإنّ سلطان ولاية أبي هي تذكرة نجاتك ». فقبّلت الأرض بين يديه امتناناً، ووقفت أبكي من شدّة فرحي بحصول هذه اللقيا.
وسمعتُ حبيب بن مظاهر ـ الذي كان يقف إلى جواري ـ يخاطبني قائلاً: « لا تخشَ شيئاً في رحلتك المحفوفة بالمخاطر هذه، ولا تيأس من خلاصك؛ لأنّ هؤلاء العظام وآباءهم المعصومين لن ينسوك، فإنّ قدومهم كان بأمر من آبائهم، فهم يُدركون شيعتهم ومحبّيهم في اللحظة الأخيرة، وأمّا هذا اللقاء فهدفه تطمينك وتهدئة روعك، كما أنّ السيدة زينب عليها السّلام تبلّغك سلامها وتقول: إنّها لا تنسى مسيراتك راجلاً للذهاب لزيارة أخيها الحسين عليه السّلام وما كنتَ تلاقيه خلال الطريق من صعوبات ومشاق وجوع وعطش وبكاء »، فقلت: « عليك وعليها السّلام منّي ورحمة الله وبركاته ».
وسألته لماذا يلبس هذان السيّدان لأمة الحرب من بين جميع الحاضرين، مع أنّه لا حرب عندنا هنا ؟
فتغيّر لون حبيب وامتلأت عيناه بالدموع، وقال: « إنّ عزمهما وإرادتهما في كربلاء على أن يبيدا وحدهما ذلك الجيش الجرّار، لم يتحقّق لهما بسبب المقادير الإلهية التي شاءت أن يحصل ما حصل فلم يستطيعا أن يحققا إرادتهما الحديدية، فبقي ذلك عزيمةً وهمّةً في صدريهما حتّى الآن، وهما ينتظران زمان الرجعة ليُطلقا همتيهما من صدريهما، فتلك العزيمة هي التي تبدو لك في صورة لأمة الحرب ».

إعراض الأهل والأحبّة
ثمّ ذهب الجميع وبقيت وحدي مع الهادي. عادت الحجرة إلى حجمها الصغير السابق، وزالت عنها معالم الفخامة والزينة. وقلت للهادي: « إنّني لن أذهب مرّةً اُخرى إلى عائلتي، لأنّني يائس من إحسانهم، على الرغم من أنهم يعملون أشياء باسمي، ولكنّها أعمال ظاهريّة فقط، ولا هدف لها سوى دنياهم، ولا حاصل لها سوى زيادة حزني وتعاستي، لذلك سوف أقنع بما عندي، وأصبّر نفسي في المخاطر معتمداً على رحمة الله بفضل هؤلاء العظام ».
فقال الهادي: « إنّك الآن لست محتاجاً إلى شيء، ففي المنازل الأوّلية الثلاثة التي تبدأ من السنة الخامسة عشرة، وهي سنة التكليف، حتّى السنة الثامنة عشرة، وهي سنة الرشد واستحكام القوة العقلية، لا توجد عقوبات مهمّة على مخالفة الواجبات والمحرّمات، بسبب ضعف العقل وقوّة الشهوات والأهواء (3). وقد خلق الله العقل أوّلاً، وقال: بك اُعاقب، وبك اُثيب. أي إنّ العقل هو الذي يدور حوله العقاب والثواب، وعليه فإنّ المنازل الثلاثة الاُولى من الرحلة في هذا العالم تكون في الأرض المسموحة، كالمسامحة في أوائل التكليف. وليس فيها مخاطر كبيرة، وإذا كان فيها بعض المخاطر فإنّها سرعان ما تنتهي وتزول. وعليه فلا حاجة لك في مرافقتي، بل سأذهب لأنتظرك في المنزل الرابع. فعليك أن تحمل غداً جرابك على ظهرك، وتسير في هذا الطريق اللاحب المتوجّه إلى القبلة إلى أن تصل إليّ ».


الحلقة الثامنة - التزود للسفر في الحياة الجديدة
_______________________
1ـ جاء في (الكافي) بسند معتبر عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّ في مغرب هذا العالم بستاناً يستقي من الفرات، وأنّ أرواح المؤمنين تتنعّم صباحاً ومساءً بنعم الله في ذلك البستان الكثير الخيرات، فيلتقي بعض بعضاً وتتعارف وتتزاور، فإذا أصبح الصباح خرجت من ذلك البستان وطارت في الفضاء جيئة وذهاباً، وعند طلوع الشمس تتفقّد قبورها. وفي شرق هذا العالم نار خلقها الله لأرواح الكفّار المذنبين والناجين، فهي تسكن تلك النار وتطعم طعاماً مرّاً وتشرب من ماء حارّ عفن.
2ـ الرحمن / 33.
3ـ إنّ موضوع سنوات البلوغ الاُولى وكونها ذات عقوبات أقل لأنّها فترة اختبار، لم ترد فيه روايات خاصّة، إذ من الممكن في بعض الأشخاص أن لا يبلغ عقله مبلغ الرشد حتّى في الثمانين أو المائة من عمره، بل تظلّ فيه حالة الحيوانية والجهل وتتفاقم يوماً بعد يوم.
Read more

الأربعاء، 17 يوليو 2013

الحلقة الثامنة - التزود للسفر في الحياة الجديدة

التزود للسفر في الحياة الجديدة

كان الهادي أثناء حديثه العذب هذا يمرّ بيده على ظهري وجنبي وسائر أعضائي، فتعود العظام المحطّمة سليمة، وتُزايلني الآلام، وتسري فيّ حياة جديدة وقوّة متدفقة.
لقد تطهّرتْ ملامحي وأعضائي من القَذَر والكدر، وغدت شفافة ساطعة، فأدركتُ أنّ ذلك الضغط كان نوعاً من التطهير لاستخراج ما في الإنسان من قاذورات ونفايات وشرور، وهي التي بدت كالنفط الأغبر.
قال الهادي: « إنّ هذا الكيس كيسك، فافتحه لترى ما فيه ». ففتحته وإذا بعُلَب مختومة وقد كُتب على بعضها « زاد المنزل الفلاني »، وعلى بعضها الآخر « أخطار المنزل الفلاني وعقباته »، وكانت ثمّة أكياس تخصّ منازل معينة، فكان ينبغي فتحها في منازلها الخاصّة.
فسألت عن العُلب، فقال: « هي ساعات اللّيل والنهار من عمرك الذي صدرتْ فيه منك أعمال سيئة وحسنة، وبعد انتهاء ذلك الوقت ينغلق فمها كما ينغلق شطرا الصَّدَفة، ويبقى ذلك العمل فيها كما تبقى الحبّة في الصدفة، وتحتفظ بها، وتصبح كالعلبة المختومة ».
قلت: « وما هذا المعلّق برقبتي ؟ ».
فقال: « هذه صحيفة أعمالك، ففي آخر الأمر ويوم الحساب، لابدّ من تصفية حساب وارداتك ومصروفاتك، وهذا ليس وقته الآن: وكُلَّ إنسانٍ ألْزَمْنَاهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابَاً يَلْقَاهُ مَنْشُورَاً (1).

التزوّد للسفر
ثمّ قال: « أرى أنّ زادك للسفر قليل، فلابدّ من مكوثك هنا بضعة أسابيع، فلعلّ شيئاً يصل إليك من دار الغرور من أصحابك، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: خير الزاد في السفر ما كَثُر. فعليَّ أن أذهب لاُهيّئ لك بطاقة سفر وجواز عبور من سلطان الدين والدنيا. فإذا لم يصل إليك شيء خلال الاُسبوع، فاذهب ليلة الجمعة إلى أهلك، فلعلّهم يتذكّرونك بطلب الرحمة والمغفرة ».
ذهب الهادي وبقيت انتظر، ولكنّي كنت في مكان حسن، فقد كنت في غرفة مفروشة بسجاجيد ملوّنة ذات نقوش جميلة.

الحقيقة المرّة
انتظرت حتّى ليلة الجمعة، فلم يحصل شيء، فذهبت حسب وصية الهادي إلى بيتي بهيئة طير، وجثمت على غصن شجرة (2) أنظر إلى ما تفعله زوجتي وأبنائي وأقربائي وأصحابي، الذين كانوا اجتمعوا على حدّ قولهم ليصنعوا لي الخيرات، فطبخوا الحساء والرزّ، وأقاموا مجلس عزاء الحسين عليه السّلام وقرأوا الفواتح. ولكنّي رأيت أنّ أعمالهم لا تنفعني في شيء؛ لأنّ الهدف الحقيقي من أعمالهم كان إعلاء سمعتهم عند الناس، ولذلك فهُم لم يَدْعوا للطعام فقيراً واحداً، ولم يكن هدف المدعوّين سوى تناول الطعام وتصريف شؤونهم الخاصّة، فلا استرحام من أجلي، ولا دمعة على الحسين بن عليّ عليه السّلام، بل كانوا يمتعضون إذا ما حصل تأخير في تقديم الخدمات إليهم، ويشتمون الأموات والأحياء. وإذا ما ظهر شيء من الحزن والألم على أهل البيت والأقرباء، فقد كان على أنفسهم وليس عليّ، لكونهم ظلّوا بغير راعٍ بعدي، وليس لهم مَن يَعُولهم ويدبّر اُمورهم.
وكانوا غارقين في شؤونهم الدنيوية بحيث إنّهم نَسُوني ونسوا أنّ هناك موتاً وداراً اُخرى تنتظرهم، وكأنّ الموت مصيري وحدي وليس لهم نصيب فيه، وكأنّ الله قد ظلمهم ـ والعياذ بالله ـ بموتي، فراحوا يتذمّرون ويحتجّون.
عدتُ إلى منزلي في المقابر بحال من اليأس والإحساس بالهوان، وكدت ألعن الأهل والأولاد، ولكنّ معرفة الحقيقة منعتني من ذلك، وقلت: « يكفيهم ما هم فيه ولا حاجة لمزيد ».
دخلت القبر من الثقب الذي كان فيه فوجدت الهادي جالساً وفي وسط الحجرة طبق من التفّاح، فسألته:
« من أين هذا ؟ ».
فقال الهادي: « كان أحد الناس يمرّ بين القبور فوقف على قبرك وقرأ الفاتحة، وهذا ثوابها النقدي ».
فقلت في نفسي: « رحم الله هذا الإنسان الذي جاء في وقته ».


الحلقة السابعة - تدوين صحيفة الأعمال وضغطة القبر
_____________________

1 ـ الأسراء / 13.
2 ـ يروي العلامة المجلسي في كتابه (حق اليقين) أنّ أرواح الأموات تذهب كلّ أسبوع أو شهر أو سنة مرّة واحدة ـ بحسب منزلتها ـ لزيارة أهلها بهيئة طائر يحطّ على حائط الدار ويشرف على ما يجري في الدار، فإذا رأى أهله في خير وسلامة فرح، وإلاّ فيستولي عليه الحزن. وفي رواية اُخرى: تطير الأرواح عند مغرب كلّ يوم في هيئة العصافير أو أصغر نحو دور أهاليها، فإذا كانت مؤمنة أرسل الله معها ملكاً حتّى إذا رأت أهلها على غير ما تحبّ أخفى الملك عنها ذلك لئلاّ تحزن.
Read more

الثلاثاء، 16 يوليو 2013

الحلقة السابعة - تدوين صحيفة الأعمال وضغطة القبر

تدوين صحيفة الأعمال وضغط القبر

عندما بقيتُ وحدي رحت أُفكر في حالي وفي ما قاله الهادي، فأدركتُ أن حالات الإنسان ومسيرته في العالم المادّي ما هي إلاَّ حلم نراه، ثمّ نستيقظ ونصحو، ونرى تعبيره في الظاهر المرئي. إن قول ذي القَرنين في الظلمات: « إنّ مَن يحمل معه مِن هذا الحصى ويصل إلى حيث النور يندم على ما فعل، ومن لم يحمل معه منه يندم أيضاً » كناية عن هذه الحال المزدوجة التي تمرّ بالإنسان في الدنيا والآخرة، إذ إنّ كلّ فرد يشعر بالندم بقدرٍ ما: يَا حَسْرتَى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ (1)، إلاّ أنّ الندم لا ينفع الآن، فقد اُغلق باب التوبة.
وفيما أنا في هذا الغمّ والهمّ غلبني النعاس، ولم تمضِ فترة طويلة حتّى أحسست أنّ شخصين أحدهما حسن الوجه، والآخر قبيحه، يجلسان على يميني ويساري، ويتشمّمان كلّ عضو من أعضائي على انفراد، من أخمص قدمي حتّى هامة رأسي، ثمّ يكتبان شيئاً في ورقة طويلة بيديهما، ومعهما عُلَب صغيرة وكبيرة يضعان فيها أشياء، ثمّ يختمانها بالشمع الأحمر، وكانا يكرّران اسم بعض الأعضاء مرّات، كالقلب، والمخيلة، والتوهّم، والعينين، واللسان، والاُذن، ويتحادثان ثمّ يعودان إلى التشمّم مرّة ثانية وثالثة، ثمّ يكتبان أشياء، ويضبطانها في تلك العلب. وقد بقيت بلا حَراك حتّى لا أشعرهما بيقظتي، ولكنّي كنت شديد الخوف من دقّتهما في تفتيش صادراتي ووارداتي (2).
لقد أدركت إجمالاً أنّهما يكتبان ويضبطان سيّئاتي وحسناتي، وأنّ ذلك الحسن الصورة كان يريد لي الخير، لأنّي عرفت ممّا كان يجري بينهما من حديث أنّه كان يمنع الآخر من تسجيل السيئات التي تُبتُ عنها، أو من إزالة عمل صالح؛ وكان هذا الشخص كالإكسير الذي يحيل النحاس إلى ذهب، فأحببته لذلك.

ضغط القبر
وبعد أن انتهى كلّ شيء طَوَيا السجلّ الخاصّ بي وطوّقا به رقبتي، ثمّ جمعا تلك العُلَب في كيس ووضعاه فوق رأسي، ثمّ أتَيا بقفص من الحديد الصلب كأنّه صنع خصّيصاً لجسمي، فوضعاني فيه وراحا يديران ما فيه من مقابض ولَوالِب، فأخذ القفص يضيق ويضيق، وأطبق عليّ إطباقاً أحسست معه أنّ نَفَسي يكاد ينقطع، ولم أستطع حتّى الصراخ، إلاّ أنّهما كانا ماضيَين في إدارة تلك المقابض واللوالب حتّى أصبح القفص الذي وسعني في البداية ضئيلاً صغيراً لا يتجاوز حجم أنبوبة صغيرة، فتحطّمت عظامي جميعاً، واعتُصر كلّ ما فيّ من دهن وخرج كالنفط الأغبر، وفقدت وعيي، ولم أعد أدرك شيئاً بعد ذلك.
عدت إلى نفسي بعد برهة لأرى رأسي في حجر الهادي مرة اُخرى، فقلت له: «اعذرني على عدم تمكّني من النهوض».
لقد كانت عظامي محطّمة، وما زالت أنفاسي ثقيلة، وكلماتي متقطعة، وصوتي ضعيفاً، والدموع تجري على وجهي، وكنت كالعاتب على الهادي، إذ إنّ الضغط الأوّل كان في غيابه.
إلاّ أنّ الهادي أخذ يهوّن عليّ قائلاً: « إنّ ما رأيتَ كان من لوازم المرحلة الاُولى في هذا العالم، ولا يُستثنى منه أحد، لذلك فالبلية إذا عمّت هانت، إلاّ أنّ كلّ شيء قد انتهى، وأرجو أن لا يحدث لك مثل هذا بعد الآن. ثمّ إنّ آلام هذا العالم من مصلحتك، فهذا القفص الذي ظننته من الحديد الصلب إنّما هو خليط الأخلاق الذميمة عند الإنسان، يشتبك بعضها ببعض، وتحيط به في حياته المادّية (3)، وتتحوّل في هذا العالم إلى هذا القفص الذي يمكن أن يكون مؤلّفاً من آلاف الخصال الذميمة، وإن يكن أصلها ثلاثة: الطمع، والأنانية، والحسد؛ فالأوّل قد أخرج آدم من الجنّة، والثاني هوى بإبليس إلى الحضيض، والثالث ألقى بقابيل في جهنّم، إلاّ أنّ لهذه الثلاثة آلاف الأغصان والأوراق، وهي تختلف من حيث الكمّ والكيف في الأشخاص اختلافاً كبيراً ».

الحلقة السادسة - نَم نَومة العروس

___________________________
1 ـ الزمر / 56.
2 ـ الصادرات هي الأعمال الصالحة والسيّئة التي تصدر عن الإنسان في دنياه، والواردات هي ما يأكل ويشرب ويرى ويسمع ويتعلّم ويدرس.
3 ـ ضغطة القبر وبعض آلام البرزخ آثار للذنوب الدنيوية، ولا علاقة لها بالكفر والإيمان، فقد يكون الميّت من المؤمنين الخلّص، ولكنّه لما لم يكن معصوماً، فقد اقترف بعض الذنوب التي لا بدّ أن ينال العقاب عليها. ويؤيد ذلك ما يرويه العلامة المجلسي رضي الله عنه في حياة القلوب عن ابن بابويه عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ سعد بن مُعاذ، الذي كان من كبار الصحابة وهو الذي أمر بضرب أعناق يهود. عندما توفّاه الله وسمع رسول الله بذلك، جاء مع أصحابه إلى دار سعد وأمر بتغسيله وتحنيطه وتكفينه. وعندما حملوه خلع رسول الله صلّى الله عليه وآله رداءه ومشى حافياً في تشييعه ودار حول الجنازة، وعند إنزاله إلى القبر نزل معه ووضعه في لحده، ثمّ خرج وشارك الناس في وضع الأحجار على القبر وفي ملء ما بينها لكيلا ينهال التراب على جسد سعد، وهو يقول: « أعلم أن جسده سوف ينخر ويتلاشى، ولكنّ الله يحبّ من يعمل عملاً فيتقنه ». فسئل عمّا دعاه إلى تشيع الجنازة حافياً وبغير رداء. فقال: « رأيت الملائكة قد حضروا لتشييع جنازة سعد حفاة وبغير رداء، فأحببت أنا أتأسّى بهم، وكان جبرئيل عن يميني، وقد وضع يده في يدي ». مع كلّ هذا التجليل والتكريم، عندما خاطبت أمّ سعد ابنها قائلة: هنيئاً لك الجنّة يا سعد؛ فقد دفنك النبيّ بيده وصلّى عليك بنفسه؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: اسكتي يا اُمّ سعد ولا تفرضي على الله أمراً، فلقد اصاب سعداً ضيق شديد في القبر؛ لسوء خلقه مع عياله ».
Read more

الاثنين، 15 يوليو 2013

الحلقة السادسة - نَم نَومة العروس

نَم نَومة العروس - مع الهادي

فسمعتهما يقولان: « نَمْ نومة العروس »، وذهبا. ولعلّي قد استولى عليّ النوم أو الإغماء، ولكنّي شعرت بأنّي قد تحرّرت من ذلك الخوف.
وبعد برهة عدت إلى رشدي وفتحت عيني، وإذا بي في غرفة مفروشة، ورأيت شابّاً صبيحاً، جميل الشعر، طيّب الرائحة، يضع رأسي في حِجرِه ينتظرني أن اُفيق. فرفعتُ رأسي عن حجره أدباً وتواضعاً وسلّمت عليه، فتبسّم في وجهي ونهض وهو يردّ عليّ السّلام، وعانقني بكل محبّة ومودّة، وقال: « اجلس، فما أنا بنبي ولا إمام ولا ملَك، بل أنا حبيبك ورفيقك ».
فسألته: «من أنت، وما اسمك، وإلى مَن تنتسب ؟ وما أحلى أن تكون أنت رفيقي، وأكون بصحبتك دائماً!».

مع الهادي
فقال: « اسمي الهادي، وأُكنّى بأبي الوفاء، وبأبي تراب. وأنا الذي ألقيتُ في قلبك الجواب الأخير الذي قلتَه فنجوت، وإلاّ لامتلأ المكان بالنار من ضرب هراوتيهما ».
فقلت: « أشكرك على ألطافك، فأنا في الحقيقة طليق يديك، ولكن سؤالهما الأخير بدا في نظري لا فائدة فيه، بل كان مجرّد ذريعة، لأنّي كنت قد أجبت عن أسئلتهما حول العقائد الإسلاميّة أجوبةً صحيحة، فلم يكن ثمّة ما يدعو إلى ذاك التساؤل حول الحقائق؛ فلو وُضِعتْ جمرة في كفّ إنسان ـ مثلاً ـ وقال: إنّ يدي قد احترقت، فلا يمكن أن نسأله: لماذا تقول هذا القول ؟ ولو سأله أحدهم هذا السؤال غافلاً لكان جوابه: أأنت أعمى، ألا ترى جَمرة النار على كفّي ؟ إنّ سؤالهما الأخير كان من هذا القبيل ».
فقال الشاب: « لا. ليس من هذا القبيل، لأنّ مجرد مطابقة الكلام مع واقع الحال لا يفيد الإنسان، بل لابدّ من الإيمان القلبي ليحرّكه نحو العمل، فقد قيل: لا تقولوا آمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم (1). أو لم يجب الجميع في اليوم الاوّل ( بلى ) عندما سئلوا: ألست بربّكم ؟ ، أوَ لم يقرّوا بربوبيّة الله كما هو الواقع ؟! ».
قلت: « بلى، فعلوا ».

عالَم الحقائق
فقال: « ولكنّهم عندما امتُحِنوا بالتكاليف في العالم المادّي، أغفلوا العمل ببعض تلك الواجبات، لأنّ إقرارهم الأوّل كان باللسان فقط، فكان أن لم ينجحوا في الامتحان، وهنا في هذه المرحلة الاُولى من هذا العالم، يجيب الجميع: مؤمنين ومنافقين، إجابات صحيحة تتّفق مع الحقيقة (2). إلاّ أنّ هذا السؤال الأخير امتحان يراد به معرفة ما إذا كانت العقيدة قلبية، إذ في هذه الحالة يكون الجواب ما قلته ويكون الخلاص. أمّا إذا كان الجواب: كان الناس يقولون فقلت، فعندئذ لا ينفع التقليد في القول بغير أن يعقد عليه القلب، كما أنّك تعلم أنّ أخبار المعصومين تورد هذه التفاصيل نفسها ».
فقلت: « نعم، الآن تذكّرت أنّ هذا هو ما ورد في الأخبار، ولكنّ الخوف والاندهاش عند طرح السؤال أنساني ذلك، وها أنت تذكّرني به الآن، فلا أبعدك الله عنّي. والآن قل لي كيف حدث أنّك تعرفني، مع أنّي لم أرَك مِن قبل، ومع ذلك فإنّي لفرط حبّي لك أرى فراقك يعني الهلاك لي ؟ ».
فقال: « لقد كنتُ معك منذ البداية، وأنا أُكنّ لك الودّ، ولكنّك لم تشعر بي، لأنّك في عالم المادّة لم تكن قويّ البصيرة. ما أنا إلاّ حبل المحبّة الذي يربطك بعليّ بن أبي طالب وأهل بيت النبوة وسَورة الهدى (3)، وهي المحبّة التي لهم فيك بقدر قابليتك. ولذلك كان اسمي الهادي، أي هاديك أنت. أمّا هو فإنّه هادي المتّقين جميعاً (4)، ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (5).
إنّه تمسّكك بتلك العروة الوثقى: فَمَنْ يَكفرْ بِالطَّاغُوتِ ويؤمِن بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الْوْثقَى لا انْفِصَامَ لَها ، لذلك فأنا لا أنفصل عنك إلاّ إذا أبعدت نفسك عنّي باتّباعك الهوى.
أمّا وجه تكنيتي بأبي الوفاء وأبي تراب فيعود إلى سلوكك وانطباقه على الأقوال والوعود وتواضعك للمؤمنين. وخلاصة القول: إنّي وليد عليّ في مهد قلبك، وإنّ مقدار استعدادي لمسالمتك وعدم مسالمتك يعود إليك، ففي حالة معصيتك أهرب منك، وفي حالة توبتك أكون جليسك. ومن هذه الناحية قلت: إنّي في رحلة هذا العالم لا أنفصل عنك، إلاّ في حالة تقصيرك أو قصورك، وهما من صنع يديك: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ وأنَّ اللهَ لَيسَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبيدِ (6).
سأذهب الآن وأتركك تستريح، فما أنا إلاّ تلك الأمانة الإلهية التي عَهِد الله بها إليك. إنّ القرآن مليء بحكايتي، ولكن من المؤسف أنّك قرأت القرآن كثيراً، ومع ذلك تقول إنّكَ لا تعرفني ».


الحلقة الخامسة - تأمّلات في عالم الحقيقة
___________________

1ـ فالإيمان أمر قلبي، ويعني الشهادة والتصديق، وهذه الشهادة والتصديق لا يحصلان إلاّ بعد قبول المباني الدينية عن طريق المنطق الفطري والاستدلال الصحيح، ولا يقبلان عن طريق تقليد الأبوين أو سائر الناس، والشهادة باللسان لا تصل القلب، وشهادة كهذه سرعان ما تزول إذا صادفت أتفه شبهة أو مغالطة، وحتّى لو بقيت إلى آخر العمر، فإنّها لا تنفع في عالمَي البرزخ والآخرة، لذلك فإنّ من واجبات كلّ أب واُمّ أن يضعا أبناءهما على صراط الدين بالاستدلال، وإذا لم يؤدّيا واجبهما هذا، فالمفروض على كلّ إنسان فرضاً عقلياً، بعد بلوغه سن التكليف، أن يتفهم اُصول العقائد فهماً جيداً، حتّى لا ينحرف عند أضعف شبهة. إن آثار إيمان كهذا تظهر في جميع الجوارح والأعضاء، فيدرك الإنسان بقلبه وعينه واُذنه، ويرى ويسمع ويعمل بإخلاص، ويتذوّق طعم الإيمان بروحه.

2 ـ لعلّ المرحوم المؤلّف قد صادف بهذا الخصوص حديثاً خاصّاً، ولكن جاء في بعض الروايات صراحة أنّ المؤمن هو وحده القادر على الإجابة الصحيحة، وأنّ المنافقين يعجزون عن ذلك.

3 ـ سَورة الهدى، تعني التحرك والهيجان والهداية في ولاية عليّ وأهل بيت العصمة عليهم السّلام.

4 ـ لابدّ هنا من إيضاح أنّ لكلمة « ولاية » معاني متعددة، تدلّ كلّها على التقارب بين شيئين تقارباً ظاهرياً أو معنوياً.
إلاّ أنّ بعض كتب اللغة، مثل كتاب ( مفردات القرآن ) للراغب الإصفهاني، يقول بوجود اختلاف في معنى « الولاية » بكسر الواو وبفتحها، فمعناها بالكسر هو العون والمساعدة، ومعناها بالفتح يشتق منه الولي الذي له حقّ السلطة على أمر من الاُمور.

5 ـ البقرة / 2.

6ـ آل عمران / 182.
Read more

الأحد، 14 يوليو 2013

الحلقة الخامسة - تأمّلات في عالم الحقيقة

تأمّلات في عالم الحقيقة

سكتُّ أنتظر أن يطرحا عليّ أسئلة أخرى، ولكنّهما لم يسألا تلك الأسئلة، وإنّما سألاني: « مِن أين لك هذه الإجابات، وممّن تعلّمتها ؟ ».
فلم أُجِب، بل احتواني التفكير، وسألت نفسي: الأدلّة والبراهين التي كنّا قد أعددناها في دار الغفلة والجهالة والخطأ والسهو، مَن يضمن أنّها كانت بعيدة عن السهو والخطأ في المادّة، أو في الصورة، أو في ظروف وضعها ؟ وكيف ندري أننا لم نحسب العقيم وَلوداً ؟ (1) وكيف نعلم أنّها تنطبق على المقاييس المنطقية، وأنّ المقاييس المنطقية تنسجم مع الواقع، وأنَّ أرسطو نفسه الذي وضع تلك المقاييس لم يكن على خطأ (2) ؟ فكثيراً ما ننتبه في ذلك العالم نفسه إلى بعض أخطائنا ومزالقنا. وعلى فرض صّحة تلك البراهين، فإنّها لا تنفع إلا في ذلك العالم الذي هو عالم العمى والجهل، حيث تكون الحاجة إلى تلك المقاييس كحاجة الأعمى إلى العصا أو كحاجة البصير إليها حيث الظلام المتراكم. أمّا في هذا العالم الذي يسطع فيه النور على الحقائق، وحيث يكون البصر حديداً، فلن تكون حاجة إلى عصا. وعليه، فما الذي يريده منّي هذان ؟ إلهي، إنّني حديث الولادة في هذا العالم، ولا أعرف شيئاً من مصطلحاته، فأدرِكْني بحقّ عليّ بن أبي طالب.
كنتُ غارقاً في بحر هذه التأمّلات عندما سمعت صيحتَهما كصاعقة من السماء، وهما يطلبان جواب سؤالهما الأخير: مِن أين لك هذا الذي قلتَه (3) ؟
نظرتُ، وليتني لم أنظر! فقد رأيت علامات الغضب الشديد على ملامحهما، وقد برزت عيونهما محمرّة كشعلة من النار، واسودّ وجهاهما، فَغَرا فمَيهما كأفواه الإبل بدت فيهما الأنياب الصُّفر الطويلة، وقد رفعا هِراوتَيهما تهيّؤاً للضرب. فأصابني فزع شديد وخوف لا مزيد عليه، فغُشي عليّ، ولكنّي في تلك اللحظة اُلهمت أن أقول بصوت ضعيف وأنا أُغمض عينيّ من شدّة الخوف: « ذلك ما هداني الله إليه ».


الحلقة الرابعة - انفراج نسبيّ
_____________________

1 ـ علينا أن نعلم أنّ المسائل العقائدية ينبغي دركها بالقلب بحيث إنّ الإيمان بها يسكّن القلب، ولهذا يقول الإمام السجّاد عليه السّلام في نهاية دعاء أبي حمزة: « اللهمّ إنّي أسألك إيماناً تُباشر به قلبي ... ». إنّ مثل هذا الإيمان والاعتقاد لا يحصل بالجدل الفلسفي المنطقي، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلّى الله عليه وآله: « الإيمان سرّ من أسرار الله »، وأشار صلّى الله عليه وآله إلى صدره. أمّا المناظرات التي جَرَت بين بعض علمائنا والعلماء المادّيين والطبيعيين فكانت لغرض إقناعهم بحسب المقاييس التي يرتضونها هم.

2 ـ يرى المؤلف أنّ اصطلاحات العلماء والحكماء والألفاظ التي يصوغونها في دار الدنيا قد تكون باطلة كلّياً وفق منطق عالم الآخرة لا أساس لها من الصحة، وأنّ كل ما قالوه ـ من دون الالتفات إلى أقوال أهل البيت عليهم السّلام ـ لا يعدو أن يكون مجرّد تخيّلات فلسفية لا تنفع في عالم الآخرة.

3 ـ في هذا إشارة إلى أنّ اُصول العقائد الإسلاميّة ـ كالتوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد ـ يجب أن تقبل ويأتي الإيمان بها عن طريق الدليل. إذ إنّ من يؤمن بها اتّباعاً لإيمان أبويه أو غيرهما، لن يُقبل منه ذلك في الآخرة ولا يحسب من المسلمين، لأنّ الإسلام دين المنطق والبرهان. فعلى المسلم أن يحصل على عقائده من طريق التبصّر والتحقيق، بحيث لو كذّبه أحد الملحدين لاستطاع أن يدرأ تلك الشبهات بالدليل وأن يثبت عقائده بالبرهان.
Read more

السبت، 13 يوليو 2013

الحلقة الرابعة - انفراج نسبيّ

الائمه المعصومين الاربعة عشر

على كلّ حال، ما أن تَلَوتُ تلك الآيات عليهما حتّى لاحظتُ أنّ غضبهما قد هدأ، فانبسطت ملامح وجهيهما، والتفتَ أحدُهما يقول للآخر: يبدو أنّ هذا من علماء المسلمين، وهو جدير بأن نتلطّف في سؤاله.
إلاَّ أنّ الآخر قال: إنّ سلوكنا معه يعتمد على جوابه عن سؤال آخر، وبما أنّ جوابه ليس معروفاً بعد فعلينا أن نواصل مهمّتنا ونؤدّي واجبنا المطلوب، لا تهمّنا شخصية هذا الميت، فالمراكز والمقامات لا اعتبار لها في نظرنا. ثمّ التفت إلى الجثّة قائلاً:
« مَن نبيّك ؟ ».
عندئذ هدأتْ ضربات قلبي وانطلق لساني أكثر، فقلت: « النبيّ ورسول الله إلى الناس كافة: محمّد بن عبدالله، خاتم النبيّين وسيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله.
هنا زال عنهما كلّ غضب وحنق، وأشرق وجهاهما، كما زايَلَني كلّ ما كنت أشعر به من خوف ورهبة.
ثمَّ أخذا يسألانني عن الكتاب والقِبلة والإمام وخليفة رسول الله، فأجبت:
« كتابي القرآن الكريم، وقد نزل من ربّ رحيم على نبيّ حكيم، وقبلتي الكعبة المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (1)؛ المسجد الحرام ظاهراً، والحقّ المتعالي باطناً وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أنَا مِنَ المُشْرِكِينَ (2). وأئمّتي وخلفاء نبيّي اثنا عشر إماماً، أوّلهم عليّ بن أبي طالب، وآخرهم الحجّة بن الحسن صاحب العصر والزمان، مفترضو الطاعة ومعصومون من الخطأ والزلل، شهداء دار الفَناء، وشفعاء دار البقاء ».
ورُحتُ أذكر لهما اسم كلّ واحد من أُولئك العظام ونسَبَه وحسَبَه، فقالا:
« لا حاجة لهذا التفصيل، فجواب كلّ سؤال كلمة واحدة ».
فقلت:
« كان لابدّ من هذا التفصيل وأكثر، لأنّكم منذ البداية أظهرتم سوء الظنّ بنا، واعترضتم على خلقنا، مع أنّه لا يجوز الاعتراض على فعل العليّ الحكيم، ومنذ اليوم الذي علمتُ فيه باعتراضكم ضِقتُ ذَرعاً بكم، وألزمتُ نفسي ـ إن أُتيحت لي الفرصة ـ أن أطرح عليكم بعض الأسئلة، واُثير حولكم القيل والقال، ولكن من المؤسف أنّ ذلك لا يتاح لي وأنا في هذا الضيق والابتلاء ».

الحلقة الثالثة - فتّانا القبر

___________________
1 ـ البقرة / 144.
2 ـ الأنعام / 79.
Read more

الجمعة، 12 يوليو 2013

الحلقة الثالثة - فتّانا القبر

الحلقة الثالثة - فتّانا القبر

كانا كوحشَين قويّين يخرج من فمَيهما ومناخيرهما النار والدخان، وبيديهما هِراوَتان من حديد محمرّ، كجمرتين يتطاير منهما الشر. أخذا يطرحان على الجثّة أسئلة بصوت كرعد قاصف كاد يهزّ الأرض والسماء، قالا له: « مَن ربّك ؟ ».
أمّا أنا فقد جفّ حلقي من شدّة الخوف والهلع، وقلت: إنّ هذه الجثّة التي لا روح فيها لا يمكن أن تجيب عن سؤالهما، ولا شكّ أنّهما سينهالان عليها بالضرب بهراوتَي النار فيمتلئ القبر بالنار المحرقة ويشتدّ الأمر، فمن الخير إذن أن أردّ أنا. فتوجّهت إلى الله أملِ البائسين والمساكين وملجأ الحَيارى، وتوسّلتُ في قلبي بالإمام عليّ بن أبي طالب (1) الذي كنت أعرفه جيداً، وأعرف أنّه يدرك الملهوفين.
كنت أحبّ أن أرى قدرته نافذة في كلّ مكان وفي جميع العوالم، وكانت هذه واحدة من نعم الله تعالى أعدّها لإنقاذ عبيده من ذلك الوضع المخيف الذي يجرّد الإنسان من كلّ إحساس وشعور:
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارى وَمَا هُمْ بِسُكَارى (2)
إنّه يذكّرهم بتلك الوسيلة الكبيرة.
وفعلاً، ما أن تذكّرت ذلك حتّى قوي قلبي وانحلّت عقدة لساني.
ولمّا طال الزمن على ردّ الجواب، عاد السائلان يسألان بغيظ وحَنَق وبصوت أشدّ من الأوّل وبغضب شديد اسوَدّ منه وجهاهما وانبعث الشرر يتطاير من عينيهما: « مَن ربك ؟ ».
ولكنّني قبل أن يركبني الخوف كالسابق (3)، أجبت بصوت ضعيف: الله ربّي هُوَ اللهُ الّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ والشّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحيمُ * هُوَ اللهُ الّذي لا إلهَ إلاّ هُوَ المَلِكُ القُدُوسُ السّلامُ المُؤمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجبَّارُ المُتَكَبّرُ سُبْحَانَ الله عَمّا يُشْرِكُوَن (4).
هذه الآيات الشريفة التي كنت أتلوها في تعقيب صلاة الصبح دائماً، تَلَوتُها عليهما لمجرد إظهار أنّي أحفظها، ولكي لا يقولا: إنّ الإنسان لا يملك علماً ولا كمالاً، كما قيل يوم خلق الله آدم إنّه ليس فيه سوى الفساد وإراقة الدماء.


الهامش

الحلقة الثانية - الدخول في عالم القبر

_______________________
1 ـ يستفاد من الروايات الموثوق بها أنّ نور ولاية أئمّة الهدى عليهم السّلام يكون في عون المحبّين والشيعة في مهالك عوالم ما بعد الموت ومخاطرها. وقد جاء في الديوان الشعري المنسوب إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام وهو يخاطب حارثاً الهمداني قائلاً:
يا حارَ همدانَ مَن يَمُت يَرَني
مِن مؤمنٍ أو منافقٍ قُبُلا
2 ـ الحج / 22.
3 ـ إن هذه الحالة من الاستعداد للإجابة التي يجسدها المرحوم المؤلف إنّما تحكي حال أشخاص من أمثال المرحوم نفسه ممّن أمضَوا السنوات في اكتساب المعرفة وخدمة الناس والأعمال الصالحة والفضائل والأخلاق الفاضلة. أمّا الذين غفلوا عن كلّ ذلك وانغمسوا في حبّ الدنيا، فيلقون حالة صعبة للغاية.
4 ـ الحشر / 22 و 23.
Read more